سريعاً، استطاع كتاب "نظرية في العدالة" أن يصعد السلّم ويصبح من كلاسيكيات الأعمال المكتوبة في تاريخ الفلسفة السياسيّة والأخلاقيّة بشكل عام، وفي الفلسفة الليبرالية على الخصوص. القاعدة النظرية التي تشكّل مثلّث الأفكار في عالم هذا الكتاب المركّب هي: "حجاب الجهل" و"الأولوية المعجميّة" و"مبدأ الفرق".
الفضيلة الأولى
في الفصل الأوّل، يبدأ مؤلف هذ الكتاب؛ الفيلسوف الأميركي جون رولز (1921 - 2002)، من الصفر. الثنائية في العلم هي بين الحقيقي والمزيف، وفي الدين بين المؤمن والمُشرِك، وفي الأخلاق بين الصحيح والخاطئ، وفي السياسة بين الصديق والعدوّ، وفي الجسد بين السعادة والألم، وفي الفنّ بين الجميل والقبيح، أمّا المجتمع البشريّ فهو: إما عادل أو غير عادل.
تنبّأ رولز بأنّ أكبر خطأ على الليبرالية يأتي من داخلها
بإقراره بأنّ "العدالة هي الفضيلة الأولى" ينشأ الاتفاق بين منظّري الفلسفة السياسية بأنّ رولز هو آخر من قدّم نظرية فلسفية شاملة تجمع بين السياسة والأخلاق. الأسماء المساهمة في هذا السياق معدودة على الأصابع: بدءًا من أفلاطون وأرسطو، مرورًا بجون لوك وآدم سميث وتوماس هوبز، إلى روسو وكانط، ثم ثلاثي هيغل وماركس وجون ستيوارت ميل.
يعني شهر شباط/ فبراير - الذي مرّ منذ أيام - شيئين للفيلسوف الأميركي: مرور قرن كامل على ولادته، ونصف قرن على صدور كتابه الأشهر "نظرية في العدالة"، والذي يعتبر أهمّ مساهمة حديثة في الفلسفة السياسية. من مفارقات هذا المفكّر الذي اشتهرت نظرياته أنه رحل بخجل من دون أن يترك مقابلة مصوّرة واحدة.
حجاب الجهل
تكمن قوّة نظرية رولز في أنها مبنية على فكرة واحدة، وهي تجربة ذهنية اسمها "حجاب الجهل" Veil of Ignorance. البشر في اللحظة التي يقومون فيها بالتفكير بمبادئ العدالة، هم بشرٌ مجرّدون من كل المعرفة حول أوضاعهم الخاصة.
في "الوضع الأصلي" تحت تأثير "حجاب الجهل" لن يعرف البشر موقعهم المستقبليّ في المجتمع، إلا بعد إقرار مبادئ العدالة وإزالة الحجاب. لا يعرفون إن كانوا سيكونون رجالاً أم نساءً، أطفالاً أم شيوخًا أم شبابًا، أغنياء أم فقراء، أقوياء أم ضعفاء، أذكياء أم أغبياء، سودًا أم بيضًا، مؤمنين أم غير مؤمنين.
فكرة "حجاب الجهل" أكسبت حيوية ونضارة لنظرية رولز
يوصل تيّار المعرفة مرّة أُخرى بعد اختيار المبادئ. يتمّ انتزاع كلّ الصفات النوعية من الفرد، والإبقاء فقط على جوهر واحد هو العقلانية. إنسان "حجاب الجهل" هو نفسه الإنسان الأخلاقي الكوني في مفهوم "الأوامر القطعية" Kategorische Imperativen لدى كانط.
هدف عمليّة تجريد الفرد من صفاته النوعية كشرط لدخول "حجاب الجهل" هو اختيار مبادئ عدالة تكون غير متأثّرة بالاختلافات الاعتباطية بين البشر. إن كنت قد ولدت غنيًا أو فقيرًا، طويلاً أو قصيرًا، رجلاً أو امرأة، هي أمور من "فوضى الطبيعة". والعدالة لا يجب أن تكون متأثرة بموازين قوى مبنية على الفوضى والاعتباط. ولا تُضمَن الحيادية إلا بحذف المعرفة بكل الحقائق الفردية. باختصار: اشتقاق العدالة من الجهل، لأنّ المعرفة تؤدّي للانحياز.
الأولوية المُعجميّة
أوّل مبدأ يثبته أفراد "حجاب الجهل" هو الحريات السياسيَّة. تُقسَّم الحرية بعدالة مثالية، كأنها قالب حلوى يقطّعه شخصٌ واحد لعدد معروفٍ من الأشخاص، تحت هاجس أنَّ آخر قطعة ستكون له شخصيًا!
كل الأفراد يمتلكون نفس الدرجة من الحريات السياسية دون زيادة أو نقصان. والحريات السياسية مذكورة في قائمة طويلة مثل: حرمة الفرد من الانتهاك الجسدي والاعتقال العشوائي، الحقّ في المشاركة السياسية في الفضاء العام، وحرية التجمّع والانتظام في أحزاب وكيانات، تكافؤ الفرص والمساواة أمام القانون، وحرية التعبير والمعتقد والإعلام، والحق بالتعليم والصحة العامة. التعليم والصحة العامة عند رولز مندرجان في المبدأ الأوّل، لضمان عدم تأثّرها بـ "تقلّبات السوق". رولز ليس ضد السوق، ولكنه مع تحديد سقفٍ للسوق، ومساحة للإنسان خارجه.
الإشكاليّة عند رولز هي في التوتر الأبدي بين الخلق والتوزيع
تسبق الحرية السياسية العدالة التوزيعية الاقتصادية عند رولز، كما يسبقُ حرفٌ حرفًا آخر في المعجم. للحرية السياسية أولوية قادرة على تعطيل أي مشروع توزيعٍ اقتصادي، إذا ما انتهك هذا المشروع أولوية الحرية. يشدد رولز على طاقة تعطيل المبدأ الأوّل بقوله: "على أولوية الحرية أن تكون بديهية، كما يسبق حرف A حرف B في المعجم".
ولا يجوز المساس بالحريات السياسيّة، حتّى لو كان هذا المساس يجلب نتائج اقتصادية مضمونة تعود بالعائد الإيجابي على كلّ أفراد المجتمع. بتأكيد أولويّة الحرية السياسيّة على التوزيع الاقتصادي، يريد رولز أن يقطع الطريق أخلاقيًا أمام الأنظمة الشموليّة التي تقدم نموذجاً اقتصاديًا ناجحاً مثل الصين. أنظمة قادرةٌ فعلاً على تحقيق نموّ اقتصادي ورفع مدخول الفرد، ولكن على حساب التخلي عن المبدأ الأوّل.
مبدأ الفرق
والحال، فإنّ فكرة "حجاب الجهل" هي جذرية لفهم رأي رولز في العدالة التوزيعية Distributive Justice. منطقيًا، الناس تحت تأثير الجهل وعدم اليقين، يحسبون حساب الاحتمال الأسوأ، وهو احتمال أن يجدوا أنفسهم في موقع الأضعف بعد صياغة المبادئ ونزع الحجاب وإعادة تيار كهرباء المعرفة.
في حالة الخطر، لما يكون الإنسان أمام احتمالات متعددة، مع التأكيد على الشرط بأنَّ نسبة حدوثها كلها هي متساوية، في هذه الحالة، منطقيًا، عليه أن يفكّر أكثر بالاحتمال الأسوأ. يجري الفرد في ذهنه الحوار العقلاني التالي: بعد إزالة الحجاب، إذا صدف حظي وكنتُ في موقع الأقوى اجتماعيًا، فسأنجو حتمًا، ولكنْ، إذا كنت في موقع الأضعف، فأنا بحاجة إلى الحدّ الأدنى الضامن للنجاة. تحت تأثير "حجاب الجهل" تختارُ زيادة الحد الأدنى للرفاه، أو ما يسميه رولز بـ "تعظيم القليل"، خوفًا من الاحتمال الأسوأ، لأنّ النجاة في الاحتمالات الأخرى مضمونة.
مبادئ "تعظيم القليل" تضع حقّ الفيتو بيد الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع عند اختيار التوزيع الأفضل. وتطبيقها يغيِّر إحساسنا بعبارة "المساواة الطبقية الكاملة"، والتي تمتلك طاقة أخلاقية إيجابية مقنعة بحدّ ذاتها. في الجدول أعلاه مثلاً لدينا أربعة أشكال توزيع. رغم أنّ التوزيع (أ) يحقق المساواة الطبقية الكاملة، إذْ يحصل الجميع على نفس القيمة (10)، إلا أنّ الاختيار بحسب رولز تحت الجهل يجب أن يكون التوزيع (ج)، لأنّ الأضعف في هذا التوزيع يحصلون على القيمة الكبرى (30) من بين كلّ احتمالات التوزيع الأخرى. يتمُّ اختيار التوزيع (ج) لأنه التوزيع الأكثر "تعظيماً للقليل" من بين كل الاحتمالات، بما فيها الاحتمال الذي يحقق المساواة الطبقية الكاملة. وهذا بالضبط ما يعنيه بـ"مبدأ الفرق" Difference Principle، إذْ إن الفروقات الطبقية في التوزيع يمكن تبريرها والسماح لها، في حالة واحدة فقط، وهي لما ترفع الحد الأدنى للفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع.
في كتابه الذي صدر بعنوان "محاضرات في تاريخ الفلسفة السياسية"، وهي محاضرات ألقاها في جامعة هارفرد، جُمعَت ونشرَت في عام 2000، أي قبل عامين من وفاته، يتناول رولز بشكل مفصّل أفكار كارل ماركس. رغم اتفاقه مع تحليل ماركس النظري للسلعة والمال في سياق التحوُّل الرأسمالي الصناعي في أوروبا، إلا أنّ مخاوفه من النزعة الرومانسية في الدعوة الشيوعية السياسية واضحة.
الإشكاليّة عند رولز هي في "التوتر الأبدي بين الخلق والتوزيع". ثمّة حقيقة لا مفرّ منها، وهي أنَّ البشر يمتلكون قدرات متفاوتة على خلق القيم، تجعل من الصعب فرض تساوي توزيعها بينهم، دون انتهاك المبدأ الأوّل. حتّى البشر الذين ينطلقون من نفس الشروط تمامًا، يخلقون كميات مختلفة من القيم أثناء مسيرتهم، وهذا التوتر أزلي. إذا ما قمنا بانتزاع كل القيم التي يخلقها الأفراد بالقسر، كي نعيد توزيعها بالتساوي، فإنَّ الفرد سيصبح "عبدًا للمجتمع". الآن، إذْا تحقق التساوي في التوزيع دون انتهاك الحريات السياسيَّة، فلا مشكلة على الإطلاق، ويسمّي رولز هذه الحالة بـ "الدولة الاجتماعية الحرّة". مرّة أخرى: رولز ليس قطباً معاديًا أو مضادًا لماركس في الفلسفة كما يظنّ البعض، بل إنَّ "مبدأ الفرق" هو استيعاب لـ "حس العدالة الماركسي" كما يسمّيه، حيث يتم السماح للفروق الطبقية فقط لما تكون لصالح الأضعف في المجتمع.
نقد جون هارساني
ثمّة نقد وجه إلى رولز حول مفهومَي "تعظيم القليل" و"مبدأ الفرق" من قبل الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، الهنغاري- الأميركي، جون هارساني (1920- 2000) في مقال كتبه بعنوان "هل مبادئ التعظيم تخدم أساسيات الأخلاق.. نقد في نظرية جون رولز" عام 1975.
عند هارساني الحياة لا يمكن أن تُبَنى على "توقع الاحتمال الأسوأ"، و"مبدأ الفرق" أداة غير فعالة عند اتخاذ القرارات الأخلاقية. أوضحَ اعتراضاته بمثالين. الأوّل هو أنَّ هنالك دومًا احتمالٌ أن تنفجر الطائرة وتموت، إذا كنت في طريقك إلى مقابلة عملٍ، من المؤكد أنّك ستنالها وستحسّن وضعك المالي. بل إنّك لن تخرج من البيت إذا خططت لحياتك وأنتَ تتوقع الأسوأ دومًا. والثاني هو سيناريو وجود مريضين مصابين بمرض قاتل، والطبيب يمتلك جرعة دوائية تكفي لإنقاذ شخصٍ واحد فقط، وعليه أن يقرر. المريضة الأولى هي فتاة في ريعان شبابها، مشهودٌ لها بالنجاح، وإنتاجها يعود بالفائدة الإجمالية على الجميع، وتمديد حياتها يعني حتمًا مزيدًا من النجاح والفائدة. والمريض الثاني هو عجوز على شفير الموت، مصابٌ أصلاً بمرض قاتل آخر، والجرعة ستطوّل حياته لثلاثة أشهر إضافية فقط. يرى هارساني بأنَّ "مبدأ الفرق" سيعطي الجرعة لـ "الأضعف" وهو العجوز، وهذا "قرار أخلاقي خاطئ".
رولز من جهته وصف المثال الأوّل بأنّه "درامي"، ويغفل شرطًا أساسيًا من شروط "حجاب الجهل"، وهو أنّ نسبة حدوث كل الاحتمالات تحته هي متساوية. ومن المعروف في الفلسفة، لا يجب أن تُنقَد الفكرة، بعد انتهاك شروط التجربة الذهنية التي تُبَنى عليها. "نظريتي تنقد في شروط مِثَالها"، يقول رولز. أمّا المثال الثاني فـ"طنّشه" رولز، لأنه لا يوجد مبدأ أخلاقي، لا يمكن حياكة "مثال مضاد" Counterexample مناسب له.
يروي رولز السيناريو الدرامي المعروف، والذي يجعل أي نظرية أخلاقية تُصاب بالصمت والشلل. إذْ يتم تخيّل شخصَيْن تحطم قاربهما في عرض البحر، وثمّة سترة نجاة واحدة، لا يمكن أن يرتديها إلا شخص واحد. الآن: كل النظريات الأخلاقية ستصنّف القتل كخطأ في هذا المثال، إذْ لا يجب أن تقتل الآخر من أجل سترة نجاة، وبالمقابل، لا توجد نظرية أخلاقية تحارب غريزة الحياة وتدعو إلى الاستسلام للغرق والموت إيثارًا للآخر، وستكون بعيدة عن الطبيعة البشريّة عملياً إن وُجِدَت. وجود الأمثلة المضادة لا يدحض بالضرورة المبدأ النظري.
ذئاب هوبز
"الوضع الأصلي" عند رولز هو ردّ مباشر على فكرة "الوضع الطبيعي" المذكور في العمل الفلسفي المرجعي "الليفاثيان"، والذي نشر عام 1651 لـ توماس هوبز. الأفراد في "الوضع الطبيعي" عند هوبز يحوزون على معرفة كاملة بحقائقهم الخاصة، ويدركون قوتهم وإمكاناتهم وقدرتهم على الأذى وممارسة الشر.
كل طرف يعرف أنّ الطرف الآخر قادرٌ أيضًا على ممارسة الأذى والإبادة. الشر عند هوبز هو "حق طبيعي"، وأثناء توقيع العقد الاجتماعي يقوم الإنسان "الذئب" بالتنازل عنه مع الآخرين، شرط أن يتنازل "الذئاب" الآخرون عنه أيضًا. أفراد "الوضع الطبيعي" عند هوبز يعرفون التفاوتات في السلطة السياسية والثروة المادية والمنصب الاجتماعي بين بعضهم البعض، وأفراد "الوضع الأصلي" عند رولز ممنوعون تمًامًا من هذه المعرفة. "الوضع الأصلي" هو تمامًا "الوضع الطبيعي"، بعد نزع المعرفة عن أفراده، لأنّ الجهل هو أولاً وأخيرًا، هو لإزالة تأثير هذه التفاوتات، والوصول للحيادية المثالية.
فكرة "حجاب الجهل" أكسبت حيوية ونضارة لنظرية رولز، بحيث تصبح مرنة أمام النقد وقابلة لاستيعاب هواجس التحركات الاجتماعيّة التقدمية. الحركات التي تدافع عن حرية الخيارات الجنسية وإزالة التمييز الجنسي، مثلاً، ناقشوا مرارًا في أدبياتهم النظرية بأنّ الإنسان تحت تأثير "حجاب الجهل" لا يجب ألا يعرف فقط بأنه رجل أم امرأة، بل عليه ألا يعرف توجّهه الجنسيّ أيضًا.
نزع المعرفة بالتوجّه الجنسي، سيولّد مبادئ عدالة تستوعب تطلّعات ومطالب الكثير من الحركات الاجتماعيَّة التي تناضل لإزالة التمييز الجنسي. أي اعتباطٍ من الطبيعة يؤثّر على مبادئ العدالة ويسبب الظلم، تُزالُ المعرفة عنه في "الوضع الأصلي".
تحت "تأثير حجاب الجهل" لا يختار الأفراد قانون الدولة القوميّة الذي صاغته "إسرائيل" في 19 يوليو/ تموز عام 2018، لأنّه يمكن ألا يكونوا يهودًا بعد إزالة الحجاب، ولن يختار غيرهم مبادئ عدالة تمنع اللغة الكرديّة في الفضاء العام، لأنهم يمكن أن يكونوا أكرادًا، ولن يضعوا قوانين تمييزية ضد النساء، لأنهم لا يعرفون إن كانوا رجالاً أم لا.
في عام 2002 رحل عن عالمنا جون رولز، محذّرًا بأنّ الأولوية المعجمية وتكرّس الحريات وترسّبها في قاع المجتمعات الليبراليّة، سيحوّلها إلى بديهية، وكأنها "شيء من الطبيعة"، وليست شيئًا مصنوعًا بحاجة إلى اليقظة والانتباه والنضال المستمر. رولز تنبأ بأنّ أكبر خطأ على الليبرالية هو من داخلها.