أنْ تكونَ الذّاكرة ملاذَ الشّاعر، قد لا يقولُ الكلامُ هنا أيّ جديد، كونها ظلّت تُحايثُ الشّعر أبداً، ولو توخّينا التّبسيط أكثر لقلنا: إنّ الذاكرة نافذة الشّعر الأبدية. بيد أنّ تيّاراً من "الستّينيين"، بتعبير الرّاحل فوزي كريم، شعراءَ كانوا أم روائيّين، مُزجَت الذّكريات عندهم بضربٍ من أحلام اليقظة والأماني، ربّما بسبب مفارقات الانتقال بين المركز والهامش التي سبّبتها ثورات وانقلابات سياسيّة بين الخمسينيّات والستينيّات، صعود وهبوط فئاتٍ اجتماعية أثقلت نفسها بالأحلام أكثر ممّا يجب، لترضى أخيراً من صخب الغنيمة بالإياب إلى القصيدة موضِعاً للتّغيير.
إلى هنا ينتمي صاحب "رماد الدّرويش" (1986)، و"الرّيح تمحو والرّمال تتذكّر" (1996)، الشّاعر العراقي حسَب الشّيخ جعفر، الذي رحلَ عن عُمر يناهز الثمانين، يوم الاثنين الماضي، 11 إبريل/ نيسان الجاري. ولو أنّ الإشارة إلى أعمال السِّيرة في سياق الحديث عن تجربة شعريّة واسعة تبدو نظرة تجزيئيّة، إلّا أنّه على هذا الجزء بالتّحديد استند الشاعر، ليشرعَ النافذة ويُشكّل الذاكرة.
ظلّ الشّعر فضاءَ الشيخ جعفر الأثيرَ، فيه انصبّت هموم الاجتراح والتّجديد الشّعري، لتشفَّ عن أسلوبيّة قوامها "القصيدة المدوّرة" التي توازي في فرادتها ما ذهب إليه الجيل الأسبق من روّاد التفعيلة، كالسّياب والملائكة وبلند الحيدري. مع أنّ عدم إيلاء الأوساط النّقدية تجربة الشيخ جعفر الشّعرية ما تستحقّ من إحاطة لَشيءٌ يثير الشجى، عزّز ذلك إيمان الشّاعر بعزلة الإنسان النّبيل وابتعاده عن ضجيج الجوائز. إلى أن جاء كِتابُ النّاقد المغربي بنعيسى بوحمّالة، "أيتام سومر، في شعريّة حسب الشيخ جعفر" (2009)، ليسدّ تلك الثغرة النقديّة، مُبيّناً أنّ اليُتمَ، أو قتل الأب بتعبيرٍ أدقّ، هو الخلاص من نسق أولئك الآباء الرّواد. من جهة ثانية، إذا كان السّياب وجيله قد بثّوا في القصيدة نزعة تمّوزية تبشّر بالانبعاث، فإنّ صاحب "نخلة الله" (1969)، و"الطّائر الخشبي" (1972)، سيكشفُ عن نزعة أورفيّة (نسبةً إلى أورفيوس) مشوبةٍ بحزن عنيد، لو فتّشنا خلفها لوجدناها متمثّلة في اغترابه عن هور السّلام، ذلك الحيّ المُفقَر، حيث وُلد في مدينة العمارة العراقية عام 1942، ومن ثمّ وعيه بمعضلة الذّوبان في حركة مدينة هائلة كموسكو التي درسَ وعاش فيها بين عامي 1959 و1965.
بنى قصيدته المدوّرة على ارتباط التّفعيلات معنويّاً
انعكست انتقالات الشاعر الحرّة بين الأمكنة في إيقاعاتٍ شِعره؛ شعر حرّ ولكنّ تفعيلاته مرتبطة بجملة واحدة، ومن هنا نشأ مفهوم التّدوير عنده، يقول: "أودي ارجعي إلينا/ مرّي ولو هنيهةً علينا/ سحابةً/ أو غُصُناً من بانْ/ يطفئ هذا الجسد السهرانْ/ وافرَحي/ وافرَحي/ أنتِ أمِ الرّيح التي تطرق فوق البابْ؟/ آهٍ عليّ فاتني الصوابْ/ أخمرةٌ في قدحي/ أم أننّي أعبُّ من سَرابْ؟". وكم أوحى إلحاحُه على هذا اللّون الإيقاعي لكثير من النّقاد بأنّه إغراقٌ في "لزوم ما لا يلزم"!
ولم ينقذه من ذلك سوى النّزوع الأسطوري الذي ألهمهُ قدرةً على تبديل الأزمنة وسحبها، لا بين حاضره وذكرياته الشّخصية فحسب، بل أمدّه أيضاً بأريحيّة واثقة في التعاطي مع أساطير العراق القديم والتراث العربي الكلاسيكي. في حين أكّدت ترجماتُه للشّعراء الرّوس، مثل بوشكين وماياكوفسكي ويسينين، مدى انفتاحه على مروحة مصادر واسعة، وأنّ انتماءه إلى هذا العالم يأتي من بوّابة الشعر ورحابته. وهذا يعادل تصوّرَه عن معنى الإنسانيّة التي لا يحدّها، برأيه، مكان أو هوية، كما عبّر في أكثر من لقاء.
بعد كلّ ما سبق، يستدعي حضور أورفيوس الحزين سؤالاً عن مُسبّباته، وهذا يقودُنا إلى النّظر في الظلال الأنثويّة في شعره. إذ لم يبتعد حسب الشيخ جعفر عن دَيدن الأسطوريّين، الذين تمثّلت عندهم المرأة مزجاً ما بين العناصر الطبيعيّة الحيويّة وبين الغموض المستحيل قبضُه. فخسارة أورفيوس لمحبوبته أوريديس تنطوي على مسؤوليّة يحملُها قلب العاشق العَجول قبل الأقدار الثقيلة، وما الذي يقود إلى هذه الرّمزية سوى الحلم بمجتمع جديد أقلّ بؤساً؟
لكنّ نداءات الخفاء تلك سرعان ما تلاشت ولم تخلّف وراءها غير حزن مديد. لذا، فالتذكير بدهيٌّ بأن المرأة في هكذا استدعاء أسطوريّ ليست أكثر من كائن سياسيّ؛ يكتب: "شممتُ في غرفتها هبّة ريحٍ آتية/ من مدنٍ مطمورة في غابر الدّهور/ شممتُ في غرفتها مجامراً في سرَرٍ/ تقضي سميراميس ليلتها فيها/ كنَمِرٍ جائعٍ حبيس/ يلهث ثدياها كخيلٍ متعبة/ مددتُ كفّي نحوها/ نزعتُ عن جبينها النقابْ/ وحينما عانقتها/ طويتُ زندي على ترابْ".
المرأة في شعره مزيج عناصر حيويّة وغموض مستحيل
بالوصول إلى فضاء السّيرة - كما كتبها حسب الشيخ - فقد غابت عنها التّلاعباتُ الشّكلانية، وكأنّهُ بذل كلّ طاقته المجازيّة في شعره من ثلاثيّات ورباعيّات وتدوير. لكنّ الأحلام كما الأمنيات ظلّت تلحّ عليه، فنجدُه يتساءل في مقدّمة "رماد الدّرويش" التي عنونها بـ"توطئة حلم" قائلاً: "أكانَ ضرورياً أن أكتبَ هذا؟ ألم يكن من الأفضل أن أدعَ هذه الحياة الغائبة أطيافاً في قصيدة غائبة".
لكنّ قارئ نصوص الكتاب السّبعة سرعانَ ما سيناصب تلك الأحلام ردّ فعلٍ نقديّاً من قبيل "واقعيّة المعقول"، إن صحّتِ التّسمية. بمعنى أنّ الأحلام، لم تحضر في اشتغالاته لا كتقنيّة شكلانيّة ولا كغرائبيّة فاعلة، كما حضرت مثلاً عند مُجايلِه، القاصّ العراقي محمد خضيّر في "أحلام باصورا" (2016)، إنّما أثقلتها الفحولة بطبعتها الحداثيّة التي نالت مراراً من السّتينيّين وأحالت الإيروتيكا عندهم إلى هيكل فارغ ومملّ، وهذا تجلّى في عمل حسب الشيخ جعفر الرّوائي "نينا بتروفنا، مَن أيقظَ الحسناء النائمة" (2014).
كانت حياة حسب الشيخ جعفر في عقوده الأخيرة كمعاناة الشّعر في أن يجد ثقافة تلقٍّ صلبة، ورغمَ ما نالَه من تهميش وقلّة احتفاء على حساب أصوات مغمورة من أنصاف المواهب، إلّا أنّ صدور أعماله الكاملة، التي ضمّت تسع مجموعات شعريّة، عن دار "الشّؤون الثقافية العامّة" مطلعَ هذا العام، أعاد التّذكير بتجربة رائدة في الشّعر العربي المعاصر، ولو أنّه أحيا نبوءة الشّاعر عن "الكأس الشّقية" عندما خطّ رباعيّة دنوّ الأجَل قائلاً: "أنا لم أعُد أدري/ الشّروق من الغروبْ/ قالوا: فدَعْ يا شيخنا الكأس الشقيّة/ ما افتضّ مثلُك مثلَها ثكلى طروب!/ قلتُ: اسكتوا. هل في الزّجاجة من بقيّة؟".