I
مرّ الهواء
هذا الصّباح بالدّفلى ولمْ يتوقَّف
ربّما كانت ألوانها قوية عليه
ثمّ
عرّجَ على العَريشَةِ
وتَردَّدَ
ربّما كانَ نومُها طويلاً
وعندما وصلَ إلى السّروةِ دارَ حولَها دَوراتٍ عدّة
قرّب أنفه.
لحسَ أوراقَها
ثمَّ
قرّبَ أذُنَه وأصغى
تراجَعَ قليلاً
استنَدَ إلى السَّروةِ
ثمَّ
ومِن كلِّ جهاتِها
هزَّها
برفقٍ هزَّها
ليملأ الحديقَةَ بأسرارِها اللّيليّة.
II
كسولٌ الهواءُ هذا الصَّباح
كسولٌ جداً، كأنّه بلا أطرافْ
ولا حَيْل ولا صَوْتَ ولا أنْفَ
كَسولٌ يتباطَأ في حَرَكَاتِهِ
كَمَنْ يَزْحَفُ زَحْفاً إلى الحَديقَةِ
لهذَا
رُبّما توقَّفَ عندَ أوّلِ شَجْرَةٍ
استندَ إلى جِذعِها
تنفّس عميقاً
وغطَّ في نومٍ عَميقْ.
III
هكذا اختارَ الهواءُ عِطرَهُ الصَّباحيّ المُفَضّل
عَبَقُ الدّفلى بَطيءٌ وَفَاقِعٌ
فانتقلَ إلى "الفتنة": حَسَّاسٌ فوحُها
لكنَّها لا تَصلُحُ للأسْفَارِ الطّويلَة.
الغاردينيا لا يَرتاحُ بَوحُها الفَاضِحُ
إلّا عَلَى الشُّرفاتْ.
ولهذا كانَ على الهَواءِ أنْ يُصلِحَ مَا أفسَدَهُ العَطّار:
فَتَحَ كلَّ مَسَامِهِ وَتَنَشَّقَ الحَديقَةَ كُلَّها
مَسَحَ بِها جِسْمَهُ بلَمْسَةٍ واحِدَة.
صارَتْ عِطراً واحداً
حَمَلَهُ
حَمَلَ الحَديقَةَ كُلّها بِلا استثناءٍ
وأكمَلَ دَرْبَهُ.
IV
كانَ الهَواءُ ثَقيلاً هَذا الصَّباح.
بدَلَ أنْ يأتي عَنْ طَريقِ البَحرِ
بخفَّةِ الزّبدِ أوْ بِرَشَاقَةِ الرّذاذ
جاءَ عَنْ طَريقِ المَدينَة
ولهذا عندما عبرَ عتبةَ الحديقَة
لَهَثَ طَويلاً
وعندَما سَعَلَ
تَسَاقَطَ مِنهُ دُخانٌ كَثيفْ
دُخانُ الحَرائِقِ الّتي
مَا زَالَتْ تَشْتَعِلُ في المَدِينَهْ.
V
لمْ يكُنِ الهَواءُ هواءً هذا الصّباح
شبهَ ضَيْفٍ
أو شِبْهَ مَيْتٍ
أوْ
شِبْهَ قَادِمٍ عَبَرَ عَتَبَةَ الحديقَةِ
بلا مَلامِح
سِوَى مَا تبقَّعَ عَليهِ
مِنْ غُبارٍ قانٍ
ليسَ مِنْ ألوانِ الزُّهورِ
وَمَا عَلِقَ بِهِ مِنْ رَوَائِحِ المَوْتَى والقمَامَة
وأصْوَاتِ الّذينَ سَقَطُوا أمامه
ولَمْ يَسْتَطِعْ أنْ يَحْمِلَ
أحَداً مِنْهُم.
VI
بدا الهواءُ مِنْ مَعدن هَذَا الصّباح
مِنْ غِيابٍ لامِعٍ
قَطَعَ العديدَ مِنْ أعناق الوُرودِ
بِغَضبِ المَوْتى النّاجينَ
مِنْ مَوْتِهم.
VII
كأنّما أصيبَ الهَواءُ بالعَمَاءِ
بعدَ مَجيئهِ مِنَ المَدينةِ
هذَا الصّباح.
لمْ يُفَرِّقْ
بينَ سَاقِ الوَردَةِ والجِدَارْ
بينَ الزُّجاجِ واللّيلَكِ
بينَ الأخضرِ والأحمرِ
بينَ يَديْهِ
وبينَ الفَراغ
بين المَوتَى
وبينَ الأحْياءْ.
VIII
خَافَ الهَواءُ
أنْ يَتركَ الحَديقَةَ
وَيذهَبَ إلى المَدينة
كأنّما أهوالُ الأمسِ
أفقَدتْهُ
شَجاعتَهُ.
كأنَّ المَوتى
أفقدوهُ كلَّ رغبَةٍ في الحَياة.
أسْنَدَ رأسَه إلى الصنوبرة
وَصَمَتَ بأصْواتِهِ المَفقودَة.
IX
لمْ يأتِ الهَواءُ هَذا الصّباحْ
كعَادتِهِ إلى الحَديقَة
انتظرَتْهُ الوُرودُ
والأشْجَارُ
وحَتّى اليَمَامُ.
لمْ يأتِ الهَواءُ
هذا الصَّباح
كَعادَتِهِ إلى الحَدِيقة
كانتِ الطّرقات كلّها
مقطوعَةً
أمامَهُ
في المَدينَةِ
كأنَّ المدينَةَ كلّها
مَقطوعَةٌ
أمامَهُ
أمامَ الحَديقَةِ.
كأنَّما العَالَمُ كانَ بِلا هَوَاءٍ
هذَا الصَّبَاح
وبِلا صَبَاحْ.
■ ■ ■
نومُ فَراشَة
يبدو أنَّ الفَراشَةَ
لا تَنامُ ملءَ جَناحَيْها
إلّا
عَلى عِدَّةِ أوْراقٍ
أوْ
حتّى عَلى عِدَّةِ أشْجَارٍ
وأحياناً
عَلى عِدَّةِ مَصَابيح
وأحياناً كثيرةً
عَلى عِدَّة فُصولْ.
■ ■ ■
فَجْأةُ اليَاسَمِينَة
فَجأةً تَصيرُ أمَامَكَ اليَاسَمِينَةُ ياسَمِينَةً.
فجْأةً تَصيرُ بيضاءَ.
وفَجأةً كثيرةَ البَياضِ
وفجأةً ثَرثَارَةَ البَياضِ
ليسَ بسبَبِ اللَّيلِ أوِ الصُّبحِ أو المَاءِ
ربَّما بسبَبِ عينيكَ
بسبَبِ المَوْتَى خَلْفَكَ
بسبَبِ مَا يَحْتَرِقُ فَجْأَةً
عَلَى جسمكَ
ممّا تساقطَ طويلاً
منذُ أوّلِ اللّيلِ
إلى اليَاسَمينَةِ الّتي صَارَتْ فجْأةً بَيْضَاءَ
بيضاءَ
بلا سَبَبْ.
■ ■ ■
والغيوم...
لماذا نظنُّ أنَّ علاقَةَ نَسَبٍ وقربى
تربطُ اليَاسمينَة بالغيومِ
ربّما لأنَّ عُصفوراً يسقُطُ فَجأةً
منَ السّماءِ أوْ غُباراً يَتَصَاعدُ مِنَ الأرْضِ
أو ربَّما لأنَّ أصَابِعَكِ لا تَمْتَهِنُ المَاءَ
لكنْ عليكَ عندمَا تعقِدُ المُقارنَةَ
وَتَبْحثُ في هُويَّةِ اليَاسَمينَةِ
أنْ تنظُرَ إلى السَّماءِ وَتَرى الغُيومَ
تعبرُ بِلا هُويّةٍ، وَلَا بِلادٍ
وَلا أبوَابْ.
...
تماماً
كمَا تقطُرُ اليَاسَمِينَةُ سُقوطَها بِصَمْتٍ
كَمَا تنسى فجأةً زَمَنَها
وَتَتَأرجَحُ ثُمّ تتأرجَحُ
لتصطَدِمَ بِها الأرضُ
وَتَصيرَ شيئاً غامِضاً عابِراً
شيئاً يُشبِهُ أنْ يَكونَ مِرآةً
للمَوْتى
أوْ مرآةً للغُيومِ العَابِرَةِ
وَلَكنَّ ما يَدْفَعُ بهذِهِ القوَّةِ الخَفيّةِ الغَامِضَة
الياسمينةَ إلى التّفتحِ في لَوْنِها الوَاحِدِ؟
ما يدفَعُ بَيَاضَها إلى آخرِ نُقْطَةٍ مِنْ نَفَادِهِ؟
ما يَدْفَعُ بهذِهِ القُوَّةِ الخَفِيَّةِ الغَامِضَةِ الظّالمَةِ
بياضَ الياسمينةِ إلى الانفصالِ فَجْأةً
إلى مَا يُشبِهُ الآخرةَ في الهَوَاء
إلى ما يُشبِهُ الزَّبدَ في تَدَاعِيهِ الرَّتيبْ؟
■ ■ ■
في اللّيل
في اللّيلِ
يُطفِئ اليَاسمينُ مَصَابيحَهُ
يَسْتَحِمُّ بلونهِ
يصيرُ مِن يديكِ أو ممَّا حولهُ
لوناً من ألوانٍ سَابِقَة.
■ ■ ■
يتأخَّرُ الوَقتُ
لا تَتَحَمَّلُ اليَاسَمِينَةُ أكثرَ مِنَ الوَقْتِ
وقتِها.
رُبَّما تتبرَّمُ مِن حِمْلِهِ
عليها.
لكنْ لا تَتَحَمَّلُ
أكثرَ مِنَ الوَقْتِ الّذي يُصَادِفُها
لحظةً
ثمَّ يُغادِرُها بِلا تَحيّةٍ وَلا وَدَاع.
الوقتُ مِن ثقلِ البياضِ
يكفيهِ ثقلُهُ أو لَوْنُهُ نَوْمُهُ
أوْ حُرَّاسُهُ أوْ مَوْتاهْ.
الوقتُ الّذي لا يتأخَّرُ
عنْ مَوَاعيدِهِ،
قدْ يتأخَّرُ قَليلاً على لَوْنِ اليَاسَمينَةِ
يتأخَّرُ
على لونِها لئلّا يترُكَ مِنهُ شَيْئاً عَلَيها
بعدَ رَحِيلِهِ.
■ ■ ■
القمر
لمْ يعُدِ اللّيلُ يَرَى سِوَى اللّيلْ
لكنَّه القَمَرُ
المُختبئ وَرَاءَ شَجَرَةٍ
يَقولُ مَا لَا يَراهُ سِوى اللّيل
بِلا مُنازِعٍ
وَرَاءَ شَجَرَةٍ تَسْتَنِدُ إلى أوْرَاقِها
مِنْ شِدَّةِ الأرَقِ.
■ ■ ■
سماء
ذلكَ لأنَّ الأشَجارَ تحتاجُ أحْياناً
إلى سماءَ واهيةٍ
وإلى ظِلال
تنطفئ عليها بِلا رَحْمَةٍ
كلّ ليلَةٍ
ورقَة ورقَة.
■ ■ ■
بين الورقة والورقة
بينَ الوَرَقَةِ والوَرَقَة
لمْ يَعُدْ مِنْ مَكانٍ للمَوتِ
وَلا للأيْدِي
وَلا للأنْفَاسْ
لكنَّ رَعْشَةً واحِدَةً
هبّةَ هَواءٍ واحِدَة
تُحرِّكُ بينَها زَمَناً
مِنَ التِّذكارَاتِ المُنْطَفِئَة.
■ ■ ■
كيف
كيفَ تُسَلِّمُ الوَرْدَةُ
عُنُقَهَا وَعِطرَها
وسيقانَها
وأوراقَها
إلى يدٍ
تقطعُها
كلَّ يَوْمٍ
بمُتْعَةٍ عَارِمَة.
■ ■ ■
تردُّدُ فَصلَين
الفلَّةُ الأخيرةُ المُتبقِّيةُ
في الحَديقَةِ
إشارةً إلى أنَّ الصَّيفَ
ما زالَ يتردَّدُ في الرَّحيلِ
وأنَّ الخَريفَ أيضاً
ما زالَ يتردَّدُ
في المَجيء.
■ ■ ■
عُزلةُ الزّيتونَة
كمْ تَشعُرُ الزَّيتونَةُ بالعُزلَةِ
عندما تَرَى وَتَسْمَعُ أوراقَ
شَجرةِ الفتنةِ البيضَاءِ
تتساقَطُ
واحدةً واحدةً
في أوّلِ الخَريفِ
كمْ تشعُرُ أنَّ في كلِّ وَرَقَةٍ
تسقُطُ مِنَ الفِتنَةِ
عزلةٌ تُضافُ إلى عُزلتِها
كأنَّ كلَّ ورقَةٍ تَسْقُطُ
من جارتها شجرة الفتنة
دَمعةٌ دَاكِنةٌ
يحبِسُها خَجَلهَا.
■ ■ ■
حرباء
حِرباءٌ تَنزِلُ سُلَّمَ الجُذُوعِ
تُصْغِي إلى ألوانِها
وهيَ تَتَبدَّلُ أمَامَها
مِنْ لونِ الجِذْعِ
إلى لَونِ الوَرَقة
إلى لَونِ الضَوْءِ
إلى ظِلِّ العُصفورِ
إلى نَزَقِ الفَرَاشَةِ
وعندَما تَقَعُ عَيْنَاهَا
على عَيْنيّ
عينيّ المفتونتَيْنِ بألوانِها
تصيرُ بلونِ عَينيّ
ثمَّ بلونِ نَظْرَتي
ثمَّ بلونِ شَعريَ الأبيض
ثمَّ تحمِلُ صَمْتي على ظَهْرِها
وتُلَوِّنُ بهِ عَيْنَيْها.
■ ■ ■
كالأشجار
الأشجارُ عِندَما تَتَحرَّكُ بأورَاقِها
وغُصُونِها وَغُبارِها
تصيرُ كالطُّيورِ
والطُّيورُ عندمَا تَحُومُ
في الهَواءِ وتُجَنِّحُ
ثمَّ تَحُطُّ
تَصيرُ أيْضاً كالأشْجَار.
■ ■ ■
تغلغل
كلَّما تَغَلْغَلَ عُصْفورٌ في الصَّنوبرَة
أوْ في الوَرْدَةِ أوْ في شَجَرَةِ الغَار
تُحَمِّلهُ مِنْ أعباقِها مَا يَجْعَلُهُ يَرْتَعِشُ
مِنَ اللّذّةِ وَمِنْ ألوانِها مَا
يجعَلُهُ يَنْشِلُ
مِن كُلِّ ألوانِها وَيَطيرُ
ربَّما يَصيرُ كلّ عُصفورٍ
يتغلغلُ في شَجَرَةٍ
كلَّ الشَّجَرَة
وكلَّ الوردَة
وكلَّ الغَار.
■ ■ ■
تتحرّك
تَتَحَرَّكُ شَجَرَةُ الكينا في الحَدِيقَةِ
بهواءٍ يَعْبُرُها
أوْ بمَنْ يَنْظُرُ إليها
ولكنْ أيضاً بِمَنْ لا يَنْظُرُ إليهَا وَلا يَرَاها
أوْ بِمَنْ يَتَذَكْرُها
تَتَحَرَّكُ شَجَرَةُ الكِينا أحياناً في الحَدِيقَةِ
بمَنْ يَمُرُّ بِها
ويترُكُ شَيئاً عليها
ويغادِرُ إلى الأبَد.
■ ■ ■
زُوَّارها
لا تُفَسِّرُ الحَدِيقَةُ مَوتَها
لأنَّها تَرْحَلُ باستِمْرَار
واقِفَةً في تَرْحَالِها
واقِفَةً في وُقُوفِها
راحِلَةً في وُقُوفِها
ذلكَ
أنَّ المَوْتى وَبِلا إذنٍ
ولَا مَوعدٍ - كمَا هيَ العَادة -
يَزورونَها باستِمْرَارٍ
وَعِندَما يَرْحَلُونَ
يزدادُ رَحيلُهُم باستِمرَارٍ
لكيْ لَا يَرْحَلُوا.
■ ■ ■
روائحُ تَراها
تلكَ الرَّوائِحُ الفَائِضَةُ
منَ النَّباتِ
تَراها كَمَا تَرى عُصْفُوراً
فائِضاً عَلَى شَجَرَة
كمَا تَرى يَدَيْكَ
أمَامَكَ
فائضتَيْنِ مِنْ تلكَ الرَّوائِحِ
الفَائِضَةِ
بِلا مُقابلْ.
■ ■ ■
العصفور الغيمة
طارَ العُصفورُ فَجْأةً
وبِلَهْفَةٍ ظَاهِرَةٍ
مِن شَجَرَةٍ الكِينا
إلى الفَضَاءِ الوَاسِعِ
ليُغَطِّي مِنْقَارَهُ بالهَوَاءِ
أوْ
يُغَطِّي الغَيْمةَ بِجَناحَيه.
■ ■ ■
الغاردينيا
لَمْ تَضبُطِ الغَاردِينيا سَاعَتَها
عَلَى التَّوقيتِ الصَّحيحِ
فَذَبُلَتْ في الصُّبحِ
بَدَلَ أنْ تَذْبُلَ في المَسَاءْ.
■ ■ ■
ظِلّ
كلَّ ليلةٍ وَمِنْ غَفْلَةِ الجَميعِ
يَنْضَمُّ ظِلٌّ جَديدٌ إلى الحَدِيقَةِ.
ظِلٌّ جَديدٌ
بحجمِ صَرخَةٍ صَامِتَة.
* شاعر من لبنان