- يناقش النص فكرة الفتنة بالطبيعة والحياة كمحفز للفلسفة، معتبراً أن العجب جزء من هذه الفتنة وليس كل شيء، مشيراً إلى تجارب الصمود والمقاومة في وجه الاحتلال.
- يعبر عن الحنين العميق لخانيونس، مدينته التي تعرضت للدمار والتهجير، مؤكداً على البسالة والمقاومة كتقليد راسخ في تاريخ الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال.
زمان، عشتُ مع الطبيعة في أبهى حللها. أقصدُ أحراش خانيونس، زمن الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، قبل أن يمسحه المستوطنون، ويحوّلوه إلى مزارع وبلدات رفاه. كنتُ أقرب ما أكون لعالم النبات والحيوان والطير والزواحف، وكنتُ أراقب كيف تنمو الشجرة: كيف يكبر فرخ العصفور ثم يغرّد. كيف يتحرّك الرمل الذهبي، فيصنع تلاً هنا، وهضبة صغيرة هناك، وبعض التموّجات على هضبة. وكلّ هذا، عبر سنوات وسنوات، مع الخلوة الماتعة، فتنني، وكانت الفتنة بالموجود، لأفهم ما هو، في بعض الأحيان، الدافع المؤلم للفلسفة.
لقد ادّعى أرسطو أنَّ القدرة على العجب تُحفّز الناس على الفلسفة، لكنّ توصيفه غير كامل. لو قال الفتنة، لأصاب كبد الحقيقة بشمول. فالعجب جزء من الفتنة، وليس هو كل شيء. طبعاً، لم تكن الصورة مثالية في كلّ وقت. كانت تأتي أوقات من الملل، ويبحث المرء عن طريق مختصر للخروج من هذا المأزق.
سبحان الرب! في بعض الأحيان يا أخي، تكون الفلسفة غريبة جداً عن بيئتك ومعاشك: عبئاً إضافياً مُلقى على كتفين هرّأتهما أصلاً حياة الفاقة في المخيم. وحتى لو تطلّع المرء إلى التفلسف مع الذات المعرفية، فإن بوصلة اللاوعي تشير إلى عضال وقوعك وشعبك تحت بسطار الاحتلال. وهنا لا بد من المجالدة والمكابدة بالسلاح، حتى يجد المرء مخرجاً ممكناً.
ماذا أفعل مع الحنين وحنيني لكلّ شبر فيها محشوٌّ بالديناميت
خانيونس مكان تعليمي العاطفي. واليوم هم أطاحوا بأكثر من سبعين في المائة من بيوتها ومنشآتها العامة. لم يبق سوى القليل، ويحتاج إلى ترميمٍ ليس سهلاً.
أمس قال أحد مجرميهم العسكر، إنَّ ما واجهوه في مدينة القلب، فوق الخيال: يخرج لهم مقاتلونا الشباب، ليدافعوا عن كلِّ شبر فيها، من كل زاوية وزقاق ومطرح. هو وصفهم بالمقاتلين الأشدّاء الانتحاريّين، ونحن طبعاً نضحكُ من ابتذال هذه اللغة.
هو يعرف كما نعرف، أنَّ مدينة القلب، هي عاصمة المقاومة في القطاع. وأنّها تواصل تاريخاً ساطعاً من الصمود والتصدي والبسالة. ولقد بدأ هذا التاريخ من أوائل خمسينيات القرن المنصرم. بسالتنا تقليد من تقاليدنا الراسخة، كشعب أصيل صاحب وسيّد هذه البلاد. أرضنا حرام عليهم، ولن يمرّوا إلّا على أجسادنا.
وهذا ما يحصل الآن حرفياً في كل متر من أنحاء المدينة. المدينة التي لهم شهورٌ فيها، ولم يستطيعوا إلّا ردم أكثر من سبعين بالمائة من بيوتها ومنشآتها العامّة، وقتل عديد الآلاف من المدنيّين نساءً وأطفالاً.
أرى خرائط إعدام العمران من الجو، وأكظم. فالأسى، مُلْحِق عليه، وليس الآن وقته. لكن ماذا أفعل مع الحنين، وحنيني الضاري لكلّ شبر فيها، محشوٌّ بالديناميت في الأحشاء؟
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا