يعتبر كتاب "السيرة الذاتية في فرنسا" (1971)، للباحث الفرنسي فيليب لوجون (1938)، من الاقتراحات الأولى التي تؤسّس لمفهوم السيرة الذاتية في الدراسات الأدبية، بل إنّ أغلبَ البحوث المهتمّة بالموضوع لا تبتعد كثيرًا عمّا جاء به لوجون، الذي طوّر جهازه النظري في كتابه الثاني "الميثاق السير ذاتي" (1975)، فعرّف السيرة الذاتية بأنها حكيٌ استرجاعي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركّز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة، مع ضرورة توفّر عنصر الصدق، وحصول التطابق بين المؤلّف والسارد والشخصية.
ومن النصوص السردية القليلة التي تستجيب لهذا التصوّر النظري، تحضر "الخبز الحافي"، سيرة الكاتب المغربي محمد شكري الذاتية، والتي تُعتبر من الكتابات القليلة التي يصحّ معها تفريغ شروط فيليب لوجون، إذ التزم هذا النص الاستثنائي بالميثاق السير ذاتي بعدما سَرد شكري حياته بصدق مُتناهٍ، وكتب سيرته الذاتية بمواصفاتها الأساسية واستعاد الأحداث في صورتها الحقيقية بلا تزييف أو تخييل. بل يعتبر "الخبز الحافي" من النصوص التأسيسية للسيرة الذاتية عربياً بمقاييس وشروط لوجون.
كان شكري مستعدًّا للبوح والإفصاح إلى أبعد حدٍّ، لذلك عاد فكتب "زمن الأخطاء" باعتباره الجزء الثاني من سيرته الذاتية، فضلًا عن حواراته الصحافيّة وقصصه القصيرة التي لا تبتعد كثيرًا عن منحى السير ذاتي. ومع استحضار معطيات الصدق والوضوح في حياة محمد شكري الشخصيّة بشهادة الكتّاب والأصدقاء، وكلّ من عاشروه عن قرب. وهو ما انعكس إيجابًا على كتابة سيرته الذاتية التي استطاعت أن تحقّق منسوبًا عاليًا من المقروئية، وأن تستثير اهتمام القراء من بلدان بعيدة وبلغات مختلفة.
تكشف المقارنة بين النصين أيّ شكل يجب أن تكون عليه السيرة
على النقيض من ذلك، يخفتُ ميثاق السير ذاتي في نص "في الطفولة" (1949) لعبد المجيد بن جلون، الذي يُدرَّسُ لتلاميذ أقسام البكالوريا بالمغرب منذ سنوات، والذي يتحدّث فيه الكاتب عن طفولته الموزّعة بين مانشستر بإنكلترا، حيث كان أبوه موظفاً في السفارة المغربية، وبين مدينة فاس مسقط رأس العائلة خلال العطل المدرسية. قبل أن يسافر عبد المجيد الشاب شرقًا صوب القاهرة لمتابعة دراسته الجامعية، ومُحوّلًا مجريات السرد إلى وصف الأماكن والشخوص التي كان يقحمها مع توالي الصفحات دون أن يذكر أسماءها، ودون أن تضيف شيئًا إلى طفولة عبد المجيد التي ظلّت غامضة.
بل يشعر القارئ أحيانًا أن ابن جلون يريد أن يكتب سيرة العائلة بأكملها دون أن يفلح في ذلك، إذ سكت عن أسماء أقرب الناس إليه. ثمّ تتوالى الأحداث على هذا النحو بلغةٍ مراوغة، يشعر معها القارئ أن جُملًا كثيرة مبتورة، وأن ثمة فراغات كثيرة لم تُملأ، وأن الكاتب يتحدّث واضعًا يده على فمه كي لا يسمعه أحدٌ، كما لو أن هناك من يقف عند رأسه ويُملي عليه السطور. هل هي سلطة الرقيب؟
بالإضافة إلى طول المسافة بين زمن الأحداث وزمن الكتابة، على اعتبار أن ابن جلون كتب مادته السردية بعد مرور ثلاثين عامًا، وهو ما يُعرّض ذاكرة الكاتب إلى المساءلة النقدية: إلى أيّ حدّ ظلت ذاكرة المؤلّف طريّة طوال هذه المدّة؟ وإلى أيّ حدٍّ تفوّق الكاتب في تشغيل خطاب البوح واستعادة الماضي بتفاصيله؟ وما حدود الواقعي والتخييلي في النصّ؟ إنها الأسئلة وأُخرى تتفرّع عنها، يُريحنا الكاتب في الإجابة عنها بنفسه عندما يقول: "إنني كلما انحدرتُ مع الماضي أفضَتْ بي الحوادث في النهاية إلى عالمٍ غامض، مثل الذي استفاق من حلمٍ نسيه قبل أن يستفيق، لا يمنعه هذا النسيان من تذكّر العاطفة التي كانت مسيطرة عليه أثناءه، فهو يستطيع أن يقول إنّ الحلم كان مزعجًا أو هنيئًا، بالرغم من أنه لا يتذكّر منه شيئًا"، إنه التصريح الذي يشوّش على العقد الأتوبيوغرافي وعلى القارئ بدرجاته.
وأهمّ شيء في طفولة ابن جلون، هو أنه كان يقطن في بيتٍ كبير بإنكلترا حيث يقضي أغلب الأوقات مع الخادمة التي تكفّلت بتربيته دون أن نعثر على سبب غياب الأم. كما أنه لم يحدث لهذا الطفل أن أُعجِب بفتاة يومًا ما أو تَخاصمَ مع طفلٍ شقيّ، بل كان متستّرًا على أسماء شخصيات فاعلة في كتابه (الأم/ الأب/ الخادمة..)، وضروري أن تُقرأ سيرته على أساس هذه الأسئلة وأُخرى، وبالمقارنة النصيّة بسيرة شكري.
إذا كان محمد شكري قد كتب سيرته، فلأنه عاش إلى حدود سنّ العشرين دون أن يعرف القراءة والكتابة، ثمّ تمرّد على مؤسسة الأسرة وانتسب إلى مؤسسة الشارع وهو طفل، فتنقّل بين أكثر من مهنة جنب الكبار، ونام في المقابر بين الأموات حين لم يستطع الأحياء احتضانه، وعانى من قسوة الأب فذهب يبحث عن الدفء العاطفي في بيوت الأجانب ودور الدعارة.
وهي كلّها تجارب تستحقّ أن تُروى وتؤرّخ نصيًّا لتشهدَ على مرحلة تاريخية من حياة المجتمع المغربي، باعتبار أن شكري كتب سيرته وسيرة الآخرين بجُملٍ إخبارية واضحة حدّ أنه يقول: "الخبزُ سرّ البقاء، يعلّمنا الشجاعة والدفاع عن الحقوق وضمان البقاء، وقهر الظلم. وفي الوقت نفسه غيابه يغرس في النفوس الذلّ والهوان، فما عاش بشرٌ عزيزًا إذا كان خبزهُ حافيًا. وحتى الخبز يعلّمنا كيف نداعب أوتار الكمنجة والقيثار، فالخبز الحافي لن يشعر بألمه لا الجائع ولا العاري، إنما المقهور من الظلم الحالك".
كان خبز شكري حافيًّا حقّاً، وكان هو مقهورًا وجريئًا في سيرته الذاتية فأقام محاكمة علانية لمؤسسة الأسرة وللمجتمع، فلم يتردّد في أن يتحدّث عن أبيه بصيغة الغائب فيقول: "أضربُه وألعنُه في خيالي، لولا الخيال لانفجرت"، بل تمرّد على نفسه وجلس على كراسي المدرسة في سنّ متأخّرة، قبل أن يكتب سيرته الذاتية التي استطاعت أن تنتزع فضول القرّاء ومحبّتهم في البلدان البعيدة، في حين كان مصيرها المنع بالمغرب، والكثير من الدوّل العربيّة طوال عقود.
* كاتب من المغرب