تُشكِّل قضيّة مخطوفي ومفقودي الحرب الأهليّة اللبنانية (1975 - 1990)، مادّة لمعرض توثيقي بعنوان "خطّ زمنيّ"، تُنظّمه "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان" (CFKDL)، وافتُتح في متحف ومركز "بيت بيروت" الثقافي، في الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير الجاري، وهو مُتاح أمام الزوَّار يومَي الخميس والجمعة من كلِّ أُسبوع، بين الثالثة والسادسة مساءً، كما يفتح أبوابه للمجموعات البحثيّة أو الطلَّابية في أوقات مُختلفة خلال الأسبوع.
يوثّق "خطّ زمني" لأربعين عاماً من جهود اللّجنة، التي تأسّست عام 1982، على يد السيّدة وداد حلواني، ونساء أُخريات فقدنَ أزواجاً وأشقّاء وأبناء لهنّ، لم يعودوا بعد، رغم "وعود" سنوات السِّلْم، ورغمَ الخطابات التي هدفت من خلالها السُّلطات المُتعاقبة إلى تمييع القضيّة، وإظهار نداءات الأهالي بوصفها مطالب قد عفّى عليها الزمن.
رحلة التأسيس
التقت "العربي الجديد" برئيسة اللَّجنة، وداد حلواني، التي وضّحت أنّ "المعرض عِبَارة عن نِتاج لنضال لجنة الأهالي طيلة أربعين عاماً، وقد تمّ جمْعُه من الأرشيف الشخصي لكلّ عائلة في اللَّجنة، منذ عام 1982، وارتأينا أن نُصدِّر هذه المادّة للجمهور العامّ، فالناس يجب أنْ تعرف ماذا حدث، وأنّ هناك قضيّة من قضايا الحرب، يجب أن يوجَد لها حلٌّ، وهي قضيّة جامعة وعابرة للطوائف والمناطق وكذلك الجنسيّات، ولا تقتصر على اللبنانيّين فقط".
وتابعت حلواني: "هذا الأرشيف لم يُغلَق وما زلنا مُستمرّين فيه، فقد قُمنا بتقسيم الأربعين عاماً إلى مراحل زمنيّة، من هُنا استوحينا العنوان 'خطّ زمنيّ'. المرحلة الأولى تمتدّ من عام 1982 إلى 1990، وهي فترة الحرب، حين كانت أنشطتنا متوجِّهة صوب التظاهُر والاحتجاج والمُطالبة بأبنائنا وأشقّائنا وأزواجنا، ثم المراحل التالية جاءت بعد 'مؤتمر الطائف' ونهاية الحرب، ومن ثم نجاحنا بإقرار قانون عام 2018".
نساء ناضلن طويلاً في قضيّة لبنانية عابرة للطوائف
بعد نهاية الحرب، تتحدّث الأرقام، وفقاً لتقديرات "قوى الأمن الداخلي"، عن أنّ الحصيلة النهائية للمفقودين تُقارِب 17 ألف مفقود/ة. وهذا ما دفع بمُؤسِّسات لجنة الأهالي للالتفات إلى شرائح واسعة من المجتمع ومخاطبتها، أو ما تسمّيه حلواني "أصدقاء قضيّتنا"، وهؤلاء يتوزّعون على أكاديميّين وصحافيّين وفنّانين وحقوقيّين ومؤسَّسات مختلفة.
في عام 1999 تمكّنت اللجنة من إطلاق أوّل حملة لها، تحت شعار "من حقّنا أن نعرف"، وأقامت منذ ذلك التاريخ أكثر من حملة مُشابهة حتى 2018، وهو تاريخ إصدار "قانون المفقودين والمخفيّين قسراً"، تقول حلواني: "طيلة هذه السنوات لم نكلّ ولم نملّ البحثَ عن أحبّائنا، رغم الخذلان الكبير الذي تعرّضنا له. اليوم نُناضل لفرض تطبيق القانون، الذي يُكرِّس حقَّ كلّ عائلة بمعرفة مصير مفقوديها، حيث شُكِّلت على إثره هيئة وطنية مستقلّة، بمرسوم من مجلس الوزراء، لتتقفّى أثر المفقودين وتكشف عن مصيرهم. وما زلنا ندفع باتّجاه الالتفاف حول هذه الهيئة لأنها خشبة خلاصنا الوحيدة".
المعرض الذي سبق أن احتضنه مبنى "جريدة السفير"، في آذار/ مارس من العام الماضي، يكتسب رمزيَّة إضافية هذه المرّة، مع انتقاله إلى "بيت بيروت"، أو مبنى بركات سابقاً، وهو الاسم الأساسي للعمارة الواقعة عند إحدى تقاطُعات خطوط التَّماس زمن الحرب، وما تزال جدرانُها تحتفظ إلى اليوم بآثار رصاصات وقذائف ذلك الزمن، وبمرابض للقنّاصة في الداخل، قبل أن يتمّ ترميم "مبنى بركات" لاحقاً، واعتماده متحفاً في عام 2016.
"شجرة العيلة"
يحمل منظّمو المعرض على عاتقهم مهمّة تعريف الجيل الجديد من الشباب بتلك الحقبة من تاريخ البلاد، و"هذا ليس فتحاً للأحاديث القديمة"، كما تقول حلواني: "بل من أجل أن نُنبّه أنّ الحرب كان وقودها الشباب، أمّا القيادات فظلّت جالسة خلف مكاتبها، وبالتالي لا نُريد أن تتكرّر المأساة، من هُنا جاء إصرارُنا على إتاحة المعرض أمام أكبر قدر من الجمهور، وخصوصاً طلّاب الجامعات. تصوّر أنّنا مع كلّ هذا التقدّم التكنولوجي الذي نعيشه، إلّا أنّ هناك قضية مُغيّبة لا أحد يتحدّث عنها ولا بأيّ وسيلة. لا يجوز كنْسُ كلّ هذا التاريخ تحت السجّادة أو التنكُّر له".
تطبيق "قانون المخفيّين قسراً" المُقَرّ عام 2018، يمنع تكرار المأساة
لم يكُن جمْعُ هذا الأرشيف بالأمر الهيِّن، وقد اعترضته موانع وتحدّيات كبيرة هي جزءٌ من واقع الدَّمار الذي فرضته الحرب، تُشير حلواني في حديثها مع "العربي الجديد"، إلى بعض هذه المخاطر: "أقلّ ما واجهناه كان إطلاق النَّار علينا، خاصة قبل نهاية الحرب، فضلاً عن إغلاق الأبواب في وجوهنا، وكذلك الترهيب والابتزاز المالي".
في أحد أقسام المعرض، ويأخذ اسم "شجرة العيلة"، تظهر صورٌ لنساء انتظرن وانتظرن، وناضلن طويلاً من أجل الالتقاء بمفقوديهم، من بينهم أمّ نبيل، المرأة الفلسطينية التي خُطف ابنُها الخامس، بعد مقتل أبنائها الأربعة خلال الحرب، والتي تمّ ابتزازُها مادّياً من قِبَل مُقاتل تابع لإحدى المليشيات، على اعتبار أنّه يعرف أين ابنها، ومن ثم صار يُراكم الأموال مقابل معلومات مُضلِّلة يُعطيها لأمّ نبيل، التي كانت تَستدِين المال مقابل ذلك، وعندما فقَد الأمل من أن تدفع أكثر، قام بقتلها.
كذلك نايفة نجّار، التي فقدت وحيدها البالغ من العُمر 13 عاماً، وانتظرت عودته مدّة 9 أشهر، ولكنَّها لم تستطع التحمُّل، وانتحرت، أو بالأحر "نُحِرت"، بتعبير حلواني، نتيجة التقصير والإهمال. أمّا أوديت سالم 75 عاماً، فخُطف ابناها: ريشار وماري كريستين، اللذان انتظرتهما لمدّة 24 عاماً، وفي عام 2010 كانت تُشارك بخيمة اعتصام أهالي المفقودين، أمام مبنى "الإسكوا" في بيروت، وقد عُرفت بشدّة ارتباطها بتلك الخيمة، إلى أن رحلت، بعد أن دهستها سيّارة وهي في طريقها إلى الخيمة. ومثلها أمّ عزيز (آمنة حسن بنّات)، اللاجئة الفلسطينية التي اختُطِفَ أربعةٌ من أبنائها إثر مُداهمات صاحبَت ارتكاب "مجزرة صبرا وشاتيلا" في 16 أيلول/ سبتمبر 1982، ولم يُقيَّض لها أن ترى أبناءها مرّة أُخرى بعد ذلك اليوم، حتى رحيلها في تشرين الأول/ أكتوبر 2022.
قضيّة هُمّشت طويلاً ولا يجب أن تسقط بالتقادُم
"لا نريد لأُناس آخرين أن يعيشوا ذات الوجع، الخطفُ والاختفاء لا تستطيع أن تتمنّاهُما حتى لأعدائك"، تتابع وداد حلواني حديثها إلى "العربي الجديد": "الموتُ قاسٍ جدّاً ولكنْ له محدوديّة، أمّا الخطف فصعُوبته تأتي من كونه يجعل الإنسانَ مُعلّقاً في الزمن، نحن نعيش في المجهول واللّايقين، ولا دواء لهذا إلّا بمعرفة الحقيقة. الدُّول التي تحترم شعوبها، ولنأخُذ قبرص مثالاً، هذا البلد غير بعيد عنّا، ولكنّه نجح في التعامُل مع هذا الملفّ، وبالتالي مشكلة لبنان، ناجمة عن أنّه، تقريباً، الدولة شبه الوحيدة في العالَم، التي لم تحلّ قضية المفقودين فيها بعد انتهاء الحرب".
وتربط حلواني الماضي بالحاضر في حديثها، مُشيرةً إلى أنّ حُجّة السُّلطات في عدم حلّ هذا الملفّ، كانت قائمة دوماً، وتتمثّل في أنه بظِلّ الحرب، الأوضاع لم تكُن لتسمح بإجراء التحقيقات الجنائية المطلوبة، لكنّ ماذا عن ضحايا تفجير "مرفأ بيروت" في الرابع من آب/ أغسطس 2020؟ تتساءل حلواني: "هذه الجريمة لم تحدُث في ظلّ الحرب، أليس منْعُ التحقيق فيها دليلاً آخر على عمليّة طيّ الملفّات من دون قراءة أو مساءلة؟".
طواحين الهوى
من الوثائق التي يحتويها "خطّ زمني"، أيضاً، لوحاتٌ إنفوغرافية لثلاث عشرة مقبرة جماعية، ويُرجّح أنها تعود إلى زمن الحرب. وتوضّح حلواني لـ"العربي الجديد"، ما جرى في حالة "مقبرة الشبانيّة"، حين عثَر، عام 2010، أحدُ عمّال الجرّافات على 27 كيساً مليئاً بالعِظام البشرية، في منطقة الشبانية. "تحرّكتْ لجنة الأهالي فوراً، واتّصلنا بطبيب شرعي، وبالمحامي المُتابع للقضيّة، وبعد فترة وجيزة مُنعنا من الاقتراب من المكان، فاضطررنا إلى رفع دعوى أمام النيابة، ولاحقاً ضاعت القضيّة بالقول إنّ العظام تعود للحيوانات وليس للبشر، ومُنع الطبيب الشرعي من الكشف عن العِظام. وهذا ما حدث في محطّات أُخرى، مثل 'مقبرة مجدل عنجر' التي حوَتْ 45 جثّة، وتم تضييع القضيّة، هذه المرّة، على أنها مقبرة تعود للحقبة العثمانية في القرن السابع عشر".
لا تقتصر أنشطة "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين" في لبنان، على الاحتجاجات وملاحقة القضايا في أروقة المحاكم، تقول حلواني: "نحن لم نُخلَق 'أهالي مفقودين'، ولا المخطوفون قرّروا ذلك". وفي هذا السياق، صدر للّجنة مؤخّراً كتابٌ مشترك بعنوان "طواحين الهوى"، تضمّن 15 قصة وقّعتها نساءٌ روَين فيها عن علاقتهنّ بالشخص المفقود زوجاً كان أو أخاً أو ابناً أو غير ذلك، وتمّ توقيع الكتاب في "معرض بيروت الدُّولي للكتاب" الشهر الماضي.
وختمت حلواني حديثها إلى "العربي الجديد"، بالالتفات إلى ما يجري في غزّة، من إبادة صهيونية مفتوحة منذ أكثر من مئة يوم: "ربّما نحن أكثر من نحسّ فيها، لأنها مأساةٌ كبيرة، يحزّ بقلوبنا أنّنا في عصر يعجُّ بالهيئات الدولية والحقوقية، ولكنّنا ما زلنا نشهد صمتاً مُريعاً. وكأنّ قادة المجتمع الدولي اليوم، يذكّروننا بزعماء المليشيات أمس. وحدها جنوب أفريقيا استطاعت أن تكسر هذا النسق اللّاإنساني من الخُذلان والتواطؤ".