يُنسب إلى دوناتيلو تصميمه، خلال القرن الخامس عشر، لأولى المنحوتات التي استُخدمت فيها "تقنية السطح الخارجي" (schiacciato)، وذلك في تماثيل ارتبطت بمواضيع دينية بشكل أساسي، حيث أنجزها غائرةً أو بارزة بنحتٍ سطحي لا يتجاوز ميليمترات فقط، ونُقشت عليها كتاباتٌ لتمنح إحساساً لدى المتلقّي بعُمق أكبر.
أعمالٌ لم تضع النحّات الإيطالي (1386 - 1466)، في المكانة ذاتها التي حازها دافنشي أو بوتيتشيللي في تلك المرحلة، لكنها باتت محطّ اهتمام وجدل كبيرَين في عددٍ من المعارض الاستعادية مؤخّراً، ومنها المعرض الذي افتُتح بداية الشهر الماضي في "متحف فيكتوريا وألبرت" بلندن، والذي يتواصل حتى الحادي عشر من حزيران/ يونيو المقبل.
تحضر إشكالية جوهرية في معرض "دوناتيلو: نَحْت النهضة"، متمثّلة بالأجساد الذكورية العارية التي لم تكن مألوفة قبل ذلك، حيث ينقسم المؤرّخون بين مَن يرى أنها تعبير عن أفلاطونية روحانية في النظرة إلى المزيج بين قوّة الرجل ورقّته، وبين فريق يعتقد أنها تعكس افتتاناً بالجَسد نفسه وتجسيداً لرغباته.
سعى إلى الربط بين الفضاءات المعمارية والجسد الإنساني
مسألة أُخرى يُضيئها المعرض، تتّصل بدراسة النحّات المولود في فلورنسا للمباني التاريخية بمدينته؛ في محاولة للربط بين الأشكال المعمارية وبين البشر، عبر افتراض فضاء وهمي يحيط بالمنحوتات يمكن الإحساس بهالته لا رؤيته مجسّماً، وبالتالي يجب تصميمها لتوضع في مكان محدّد بعينه.
وفق هذا المنهج، قدّم دوناتيلو أبرز أعماله، مثل "عيد هيرودس"، الذي رتّب فيه الأشكال بأربعة تدرّجاتٍ من العُمق، وثبّتها على لوح من البرونز لا يتجاوز سُمكه سنتيمترات معدودة، لكن المنحوتة مليئة بالتفاصيل والإيماءات، حيث يرفع هيرودس ذراعيه بينما يقدّم خادم في هيئة ركوع رأس يوحنا المعمدان على طبق، كما تظهر شخصيات أُخرى بحركات يدٍ متنوّعة وآلات موسيقية وأطفال مذعورين يبدون كأنهم يفرّون من العمل.
يضمّ المعرض حوالي مئة وثلاثين عملاً، تتنوّع خاماتُها بين الرخام والبرونز والخشب والطين والجصّ، تبيّن العناصر الرئيسية مثل تجسيد الإنسان بمقاييس واقعية لجسده خلافاً للتماثيل المنتشرة في أوقات سابقة، في استعادة للأساطير اليونانية والرومانية والأيقونات المسيحية، وإضفاء تعبيرات تُوحي بالضعف أو الخوف أو الشيخوخة على وجوه التماثيل، والتي ستؤثّر على النحت الأوروبي في ما بعد.
يتتبّع المنظِّمون تحوّلات صاحب "الأسد الفلورنسي"، بدءاً من المرحلة الأولى التي تعلّم فيها صياغة الذهب والحلِيّ، ثم ظهور أولى منحوتاته عام 1408 - وكانت مفارقة للأسلوب القوطي السائد في الفن الفلورنسي، والإيطالي عموماً، الذي يحتفي بمثالية الجسد - عبر تكريس البُعد الإنساني، مثلما فعل بتمثال مريم المجدلية الذي يُصوّر بدلاً من الشابة الجميلة الأكثر شيوعاً في الكنائس الأوروبية قبل ذلك.
الفنان الذي كلّفته نقابات فلورنسا بتنفيذ العديد من الأعمال، ثم أصبح مقرّباً جدّاً من الكنيسة وبلاط عائلة ميديتشي، وفاعلاً في معظم مشاريعهما، يُنظر إليه كأحد الممثّلين الحقيقيّين لإحياء الرياضيات والعلوم والهندسة المعمارية ودمجها في الفن، من خلال الالتزام بدقة التشريح للجسد ونِسَب أعضائه، والتأكيد على الأبعاد الثلاثية له بما يُحاكي الواقع ولا ينزاح عنه، ما يعتبره البعض ثورية في النحت تأسّس عليها عصر النهضة.
المعرض الذي يضمّ مقتنيات من متاحف ومؤسسات فنية إيطالية، وتنقّل بين أكثر من مدينة أوروبية، يستند إلى مصادر تاريخية تركّز على ثيمات محدّدة، كالتقليد والابتكار في تجربته، والصداقة والمنافسات التي عاشها خاصة في شبابه مع نظرائه من الفنانين، وعلاقته مع بعضهم حيث تعاون معهم لتنفيذ أعمال مشتركة، وتأثيره على الفنّ الغربي الذي استمرّ حتى القرن التاسع عشر، مع ظهور العديد من المنحوتات المزيّفة التي نُسبت إليه.