قبل أن يبلغ السادسة، تفرّقت عائلة المصوّر الصحافي البريطاني دون مكولين (1935) مع اندلاع الحرب العالمية الثانية بين عدّة مدن في بلاده، حيث قضى أشهراً بلا استحمام وأياماً دون طعام، وما إن انتهت العمليات القتالية، اعتقدَ أن عليه الاستعداد لما أسماه "القسوة الدائمة"، حيث رائحة الفقر تشكّل الذكريات الأولى لطفولته.
الطفل الذي عانى عسر القراءة، أُجبر على مغادرة المدرسة في الرابعة عشرة من عمره بسبب رحيل والده الذي كان مصاباً بالربو، والتحق بالجيش البريطاني حيث جُنّد في منطقة قناة السويس، وهناك رأى سفن دول أوروبية تؤوب إلى بلدانها عقب الثورات التي حقّقت الاستقلال في مستعمراتها، وعاد بعدها إلى لندن حيث استطاع بعد عامين أن يبيع أول صورة له بخمسين جنيهاً، وتبدأ بعدها رحلته الطويلة مع الصورة والحروب.
حتى التاسع من أيار/ مايو المقبل، يتواصل معرضه الجديد في "متحف تيت" بمدينة ليفربول البريطانية والذي افتتح في منتصف أيلول/ سبتمبر الماضي، ويتضمّن المعرض حوالي مئتين وخمسين صورة التقطها مكولين أثناء تغطيته الحروب والنزاعات في بلدان عديدة مثل سورية وفيتنام ولبنان وأيرلندا الشمالية والهند ودول أفريقية على مدار ستين عاماً.
كانت أولى صوره المنشورة لشرطي بريطاني قتلته إحدى العصابات، ثم ذهب إلى برلين عام 1960 ليلتقط هناك صور إنشاء السور الذي فصل بين عالميْن لنحو ثلاثة عقود، حيث حقّقت تقاريره المصوّرة انتشاراً واسعاً آنذاك، لكنه سينال مزيداً من الانتشار مع نشر مقالاته حول عمّال الصلب في بلدة هارتلبول البريطانية؛ القضية التي شكّلت محور اهتمامه خلال الستينيات والسبعينيات حين فقَد آلاف العمّال في المصانع وظائفهم بسبب السياسات الرأسمالية المتوحشة، والتي يوثّقها المعرض في عدد من الصور.
سجّلت عدسته الموت والجوع والأوبئة من فيتنام إلى سورية
في تلك الفترة أيضاً، سيغطي مكولين الحرب الأهلية في قبرص، كما سيذهب إلى الكونغو متنكراً بزي أحد المرتزقة الذين شاركوا حينها في الاقتتال الداخلي بعد استقلال هذا البلد الأفريقي عن بلجيكا، وأودى بحياة أكثر من مئة ألف كونغولي، ومنها انتقل إلى فيتنام عام 1965 موثقاً الفظائع التي ارتكبها الأميركيون في خمس عشرة زيارة خلال الحرب التي استمرت عشرين عاماً.
لم يخف المصوّر صاحب كتاب "بيروت: مدينة في أزمة" (1983) انحيازاته السياسية وتضامنه مع العديد من القضايا، التي يقرّ بأنه لم يع حقيقتها قبل أن يرصدها بكاميرته، ومنها استغلال سكان الأمازون الذين يعانون من التهميش الاقتصادي والقطع الجائر للغابات التي يسكنونها، ما يؤدي إلى تهجيرهم قسراً عن أرضهم.
هكذا تمثّل أعماله الفوتوغرافية بانوراما ممتدّة ومثقلة برائحة البارود والمجاعات والأوبئة والنزوح، والتي تركت أثرها في أكثر من محطّة خلال حياة مكولين وأدت إلى توقفه عن العمل فترات، حيث يتابع زوّار المعرض صورة لرجل من زيمبابوي مصاب بالإيدز وهو يحتضر، وأخرى للأحياء التي دمّرها قصف النظام السوري في مدينة حمص، وثالثة لشبان ينتمون إلى "حزب الكتائب" وهم يبتهجون ويحتفلون لمقتل فتاة فلسطينية خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
يقرّ مكولين بأنه عاش أسيراً بسبب هيمنة التصوير الفوتوغرافي على حياته، يلاحق المأساة ويسجّلها ثم يدخل غرفة محاطة بجدران رمادية ويعالج صوره التي يغلب عليها الأبيض والأسود، ويؤطرها ليراها الناس. عاش طويلاً وشهد الكثير الذي لم ولن يُنسى.