الأربعينات في القدس. كانَت الحرب تقبض على العالم. لكنّ القدس، بالنسبة إلينا نحن تلميذات المدرسة، كانت مكاناً هادئاً يَشيع السلم فيه، وكانت أرستقراطية، نظيفة، مغتسلة بالشمس. كنّا نترعرع في أكثر مدن العالم قداسةً، مدينة تضرب جذورُها في أعماق التاريخ، ونحن، أطفالها، متأصِّلون في فلسفتها المتينة، المؤمنة بتعايش عديد الثقافات وعديد الأديان. وكان العالم محارةً في يدي.
***
كان صدري يمتلئ بالفرح حين قطعتُ وبناتِ صفّي زاوية الشارع العريض المؤدّي من فندق الملك داوود إلى البقعة التحتا. وعلى الرصيف، عند تقاطُع عدّة شوارع (نقطة ترى، عام 1998، مقابل فندقي الملك سليمان ولاروم)، كانت امرأةُ سوداءُ تقفُ دائما هناك، كأنّها جزءٌ ملتصق بالمكان؛ كانت تبيع الفستقَ السودانيّ، محمّصاً طازجاً في محمصها القصديري البسيط، الذي ينفث الدخان من مدخنة صغيرة على جانبه. جدّية رسمية دائماً، ما كانت أبداً تبدي أية إشارة تدلّ على أنّها باتت تعرفنا حين نأتي إلى زاويتها، بالرغم من أنّنا كنّا لها زبوناتٍ منتظمات. كانت تبيعنا الفستقَ في أقماع من ورق الجرائد تعدّها بنفسها، ثم تقبض من كلّ منّا قروشها، لتغرق ثانية في صمتها. لم يكن أحد يعرف من تكون ومتى جاءت إلى القدس. لكنّ إحدانا اشتمّت إشاعة خبيثة كنّا نهمس بها الواحدة في أُذن الأُخرى، ونحاول أن نكتم ضحكاتنا، فقد قيل إنّها كانت تقوم بوظيفة أُخرى في الليل. وإذ أنّي فطِرتُ على حسٍّ مرهفٍ بالجمال، فقد كنتُ أرفضُ أن أصدِّقَ أنّ كائناً من كان يمكن أن يتقرّب إلى مثل هذه المرأة النحيلة المتجهّمة التي لا حظّ لها من جاذب. "أيتها الساذجة!" هكذا كانت بنات صفّي يخاطبنني. "أيتها الساذجة، إنّك لا تعرفين شيئاً عن العالَم!".
كنتُ وبناتِ صفّي نحبُّ أن نتمشَّى من المدرسة إلى البيت، ندردشُ ونتضاحك على امتداد الطريق الطويل. لكَم كنّا نستمتع باللهو، خاصّةً حين تبدأ مارغرت برمكي فجأةً، وهي الخبيرة في تقليد الراهبات في كلّية شْمِيتْ للبنات، في تقليد ضحيّتها المفضّلة، الأخت إرمنتراوت، الراهبة المسؤولة عن سكن التلميذات، مركّزة على حرف الزين الذي كانت تلفظ به السين في اللغة الإنكليزية، التي كانت الأخت إرمنتراوت تمضغها مضغاً، وعندها كنّا نضاعف من ضحكنا، حتى في منتصف الشارع.
وقد كانت العادة أن تحافظ الصبايا العربيّاتُ على الجدّيّةِ التامّةِ والاحتشام، فلم يكنْ يُتوقَّع منّا أن نبديَ مرحَنا في منتصف شارع رئيسي في قلب الأحياء العربية في القدس الغربية. ولا يعني ذلك أنَّ مضاعفة الضحك في شارع يافا، حيث فتح اليهود المهاجرون إلى بلادنا دكاكينهم، كان أقلَّ مدعاة للاستهجان؛ بل، على العكس، كان مثيراً لاستهجان أكبرَ أن تضحكَ وتمرحَ بناتٌ عربياتٌ من عائلاتٍ معروفةٍ في قلب شارع يهودي. فقد كان يُعتبرُ تقبُّلاً لما بدا لنا في ذلك الزمن، بتعبير مخفَّف، ثقافةً يهودية غير محافظة، تتناقض جذرياً مع معاييرنا الثقافية المفعمة بآداب المجتمع واللياقة المتزمّتة. كنّا نكبر، وقد أخذت صدورنا تخطّ خطوطاً ناهدة تحت زيِّنا المدرسيِّ. وقد فرض هذا علينا التزاماً صارماً بقواعد السلوك. ولكنْ، من منّا التي تُنصت؟ كنّا، ببساطة، نضحك ونمرح، ونأكل الفستق السودانيّ، وننسى دروسنا وواجباتنا البيتية مؤقّتاً، وننسى حتى الراهباتِ الألمانياتِ الأكثر تزمّتاً، اللاتي كنّ يحاولن تعليمنا التواضع وفلسفة العمل الجادّ.
بعد ذلك ببضع سنين، حين تخرّجت من الجامعة الأميركية في بيروت، وعدتُ إلى القدس لأبدأ تدريسَ الأدبِ العربيِّ في أفضل معهدٍ للبنات في فلسطين، كلّية دار المعلّمات، التي لم تكن تقبل من التلميذات إلّا أعلاهن درجةً في صفوفهنّ، كنت أحياناً أمرُّ من الزاوية نفسها في طريق عودتي إلى البيت، لأجد المرأة السوداء عينها، وقد كبرت قليلاً وزاد نحولها، ما زالت تبيعُ فستقها المحمّص الطازج. كان طبيعياً أن أراها، وأن أتمشّي في تلك الشوارع التي كنت أتمشّى فيها مع بنات صفّي في تلك الأيام التي كانت أحياناً صاخبة في مرحها. وحتى ذلك الوقت لم أكن لأعرفَ ما يخبّئه القدرُ حقيقة لي في الزمن اللاحق، أو لمارغرت برمكي، التي انتهى بها الأمر في البرازيل، أو لبنات صفّي الصبايا، اللواتي كنّ مثلنا مرحاتٍ، يقتنصن الفرح من كلّ مناسبة ممكنة في فترة مراهقتنا النشطة في كلية شْمِيتْ للبنات في القدس.
بُعَيْدَ عودتي إلى الوطن للتدريس، خُطِبْتُ إلى الرجل الذي اخترته. فبدا كلّ ما في العالم على أتمّ حال، وما زال العالم محارة في يدي.
يوم كنتُ فتاة أصغر بكثير تعيش في عكّا، فعلتُ ما كنتُ أراه خدمةً حقيقية لوطني. حتى وأنا في العاشرة من عمري، كنت أستثير المظاهرات العديدة، وغالباً ما تزعَّمتُها. وفي مرّاتٍ عديدة في الأسبوع، كنتُ، وبعزم شديد، أحملُ التلاميذ، أولاداً وبناتٍ، على السير في شوارع عكّا، ننشد الأناشيد الوطنية ونقلب حياة الشرطة جحيماً. حتى أنّ أمّي (كان أبي في تلك الفترة كلّها رهينَ المعتقل)، بل جميع الكبار في عكّا، باتوا يضيقون ذرعاً بغلواء حماسنا الوطني. غير أنّني في كلية شْمِيت للبنات في القدس، كنتُ أركز على أمرين اثنين: أوّلاً على دروسي، لأردَّ لأبي تضحيته في استدانة المال لتعليمنا، ذلك أنه كان، لثلاث سنواتٍ من فترة سنوات شْمِيت الخمس، رهينَ المعتقل بلا دخل على الإطلاق؛ وكان اهتمامي الثاني في البهجة التي استطعت نيلها من الكلام العربي المليء بالتورية والنكات والألغاز وأحياناً من المحادثات الجدية.
أمّا الوطنية، فقد خبّأتُها إلى أن حملت على عاتقي مسؤولية تدريس الشابّات في دار المعلّمات. يومها استعدتُ ما أنشِئتُ عليه في بيتنا الذي كان برنامجُ أبي السياسيُّ محورنا جميعنا في بيت حيٍّ بالمشاعر الوطنية الكبيرة: كفاح أبي الذي لا يني في سبيل القضية، ضدّ المستعمرين البريطانيّين والغزاة الصهاينة والمتعاونين العرب جميعاً؛ شجاعة أمّي اللبنانية، وصبُرها ومقاومتُها إلى جانب أبي؛ وهذا الجوّ كلّه، المليء بالضغط والنضال، الذي كان محرّكاً لحياتنا. أمّا والدي الذي كنت أراه مثالاً أعلى، فما عشتُ معه إلّا لماماً؛ كان يمضي لكثير من سنوات عمره ما بين حبس وحبس في المعتقلات والمنافي.
***
في دار المعلمات كُلفتُ بتدريس أربعة صفوف. ولقد رأيتها لحظة دخولي صفًّ السنة الثانية. كانت ذات عينين معبّرتَين، يتمازج فيهما اللونان الأزرق والأخضر، وشعر جَعْدٍ، ووجهٍ يميل إلى التربيع، لعلّه يبدو جذّاباً حين لا تكون عابسة. كانت ممتلئة بعض الشيء. وإذ نظرت إليّ باستحياء، شعرتُ نحوها بشيءٍ من التحدّي. قلتُ لنفسي، "ثمّة خطأ ما". قالت إنّ اسمها "حياة البلابسة". "حسناً، لنرَ ما تعرفين عن أحمد شوقي". لكنّ ما تعرفه كان قليلاً جدّاً. فجأةً، بعد ذلك، غادرت الصفّ وقد بدا عليها الارتباك. أمّا بناتُ صفّها فكنّ متعاطفاتٍ معها، وقد روين بطريقتهنّ الموجزة المتردّدة قصّة تعتصر القلب: كان والدُ "حياة" ميتاً وأمُّها مشلولة. وكان عليها أن تُعنى بها وبأختها الصغرى العمياء. وكان لهم عمٌّ موسر يساعدهم على الحياة بمخصّصات شهرية زهيدة. مجمل القول، لقد كانت حياة تعيسة، ميّالة إلى العبوس، وتشعر أنّ الله كان متحاملاً عليها وعلى أختها.
عندها، ضممتها تحت جناحي، وعملتُ معها بصبر حتى أكسبتها ثقة بنفسِها. لم تكن تلك الطفلةَ التي بدت لي أول الأمر. فقد كانت من النضج بحيث أذهلتني. وما كان أكثرَ الأيامَ التي كانت تتأخّر فيها بعد المدرسة لتتحدّثَ معي لنصف ساعة حول مُثُل عظيمة، كالوطنية والواجب، والإحسان، والعاطفة، قبل أن تسرع الخطو إلى واجباتها الثقيلة في البيت.
بعد ذلك زاد من اقترابنا معاً حادثةٌ حدثت مع الآنسة مارش مدرّسة التدبير المنزلي والآنسة هِكَر مديرة الكلية.
لم أكن أكبرَ كثيراً من أكبر تلميذاتي. وإذ كنتُ المناوبة في ذلك اليوم، كان أحدُ الصفوف متأخّراً على الغداء أكثر ممّا يجب. فذهبت لاستطلاع الأمر. كانت الآنسة مارش هي التي أخّرتهنّ بدون إخطار قاعة الطعام. وحين رأتني، تملّكها الغضبُ وأخذت تتصرّف بوقاحة. حينئذٍ ذكّرتها بأنه كان عليها أن تعلمني بكلمة من عندها، وأنّ من المناسب لها أن تكون مؤدّبة. كانت تتفجّر غضباً، وكنت غاضبة أنا الأُخرى، خاصّة حين تكلمّتْ بلهجة فظّة متغطرسة. ثم تركتُ المكان وأنا جدُّ مستثارة.
رفض الصفُّ أن يُكملَ الدرس، واندفع لاحقاً بي. عندها ذهبت الآنسة مارش مباشرة إلى المديرة هِكَر، فتهيّجت التلميذاتُ أكثر، ولم أستطع ضبطهن. وبسرعة فائقة، أصبحت المسألة مواجهة سياسية بين البريطانيّين والعرب. وقد سمعتُ حياة تقول: "ليس لهن أن يكلّمننا بصلافة في بلدنا". وبسرعة استدعتني الآنسة هِكر.
لقد كان هذا أمقَت صدام واجهته في حياتي. فقد وجدتُ الآنسة هِكر غاضبة، وحين رأتني سألتني بغطرسة: "لماذا كنتِ وقحة مع الآنسة مارش؟" فأجبتها: "على العكس، فالآنسة مارش هي التي كانت وقحة معي". عندها أخذت تتكلّم عن الشابّات العربيات اللواتي كنّ يُعادين البريطانيات، بينما يجب عليهنّ أن يُنصتن إلى ما تقوله البريطانيات.
ثم صاحت بي: "أتعلّمين تلميذاتكِ أن يكرهن المستعمر؟"
فأجبتها: "فأنت إذن تعترفين بأنكم مستعمرون".
عندها تجنّبَت سؤالي، ولكنّها صاحت: "أخبريني، هل سوف تطيعين المستعمر أم لا؟ إني أصرُّ على سماع الجواب".
لقد جُنّ جنونُها، ولكنّي كنتُ أكثرَ منها جنوناً، فأسرعتُ لها في الردِّ وقلت: "انتبهي لما تقولين. لن أطيع المستعمر، ولن أحترمه، ولن أعترف به. لن أفعل ذلك أبداً. أفضِّل الموت قبل ذلك!" أمّا التلميذات اللاتي كنّ يُنصتن تحت شباك الآنسة هِكر، فقد أطلقن صرخة مدوّية.
خرجتُ كالعاصفة، وكانت دموع الغضب والمهانة تتحدّر على وجنتيّ. وعلى الباب قابلتني الفتيات، فقلتُ لهنّ: "تركتُ. لن أعودَ إلى هذا المكان الجهنّميّ". ثمّ أخذتُ أوراقي وغادرت، تصحبُني طائفة كبيرة من التلميذات النهاريات، وكانت حياة إلى جانبي تحمل أوراقي. وتركنا خلفنا حشداً من التلميذات الداخليات الساخطات، اللواتي، لمّا لم يجدن وسيلة للتعبير عن غضبهن، قُمن بإحراق أحد الصفوف.
قبعتُ في بيتي طوال أسبوع. وكانت حياة تزورني كلّ يوم، وتحاول أن تلطفَ من مشاعري وتقنعَني بالعودة إلى التدريس. ثمّ حُلت المشكلة حين استدعاني إلى مكتبه أحمد سامح الخالدي، أعلى مسؤول عربي في دائرة المعارف، وهدّأني فعلاً. وكان أبي قد زاره محتجّاً بقوّة على أسئلة الآنسة هِكر العدوانية. وقد اتّضح لي أنّ الأستاذ الخالدي كان تكلّم مع الآنسة هِكر بحزم، على أقلّ تعبير. وحين عدتُ للتدريس تصرّفتْ هي بشكل طبيعيّ، وهكذا فعلتُ أنا.
بيد أن شيئاً تغيّر في المعهد تغيّراً نهائياً. ذلك أنّ شيئاً نفيساً مقدّساً قد انتُهك، وما كان لجرح مفتوح أن يلتئم مرّة أُخرى. ومنذ ذلك الحين، لم أترك فرصة لم أخبر فيها البنات عن المحنة التي جلبها البريطانيون لبلادنا.
أمّا الآنسة مارش فقد عانت كثيراً على يد التلميذات والعمّال اليوميّين. لكنْ، لم يكن هناك شيء يمكن لأحد أن يفعله لاستعادة الأمر إلى طبيعته الأُولى. ولقد غدت حياة شعلة من الوطنية، ولكم علّقت بنات صفها على ما أصابها من تغيّر عظيم.
في ذلك الصيف جاءتني حياة تستشيرني إن كان من المستحسَن أن تقبل وظيفة معلّمة في دير ياسين. قالت، والدمع يفيض من مقلتيها المعبّرتين: "نحن في حاجة إلى المال، يا ستّ سلمى. أمّي تحتاج إلى الدواء، ولا نستطيع أن نستمرّ على حالنا أكثر من ذلك". لقد أحزنني أن تتخلّى شابة ذكية عن فرصة رائعة للدراسة وضمان وظيفة آمنة بعد ذلك، لكي تكسب ما يكفي من مال لرعاية أمّها المريضة. لذلك لم أستطع أن أنصحها بشيء. كان تحصيل العلم، بالنسبة إليّ، واجباً مقدّساً. فأخذتها إلى أمّي، التي كانت تعرفها من قبل وتحبّها.
قالت لها أمّي: "يا حياة، في داخل كلٍّ منا صوت صغير يتكلّم. أنصتي إلى ذلك الصوت واتبعي ما يقوله لك".
"يقول لي أن أتركَ المعهد وأدرّس، يا خالتي، لقد سمعته من قبل، ولكنّي أعلم أنّ الستّ سلمى تريدني أن أكمل دراستي".
فأجابتها أمّي: "لا تنصتي لسلمى، بل أنصتي لذلك الصوت، فقط".
وبعد أن غادرت، قالت أمّي بقدر كبير من الحنان: "إنّها فتاة شجاعة حقّاً، ولا تجدين مثلها كلّ يوم".
تزوّجتُ في تلك السنة وتركت التعليم. وفي كانون الأوّل حضرَت حياة عرسي، واستمرّت تزورنا في شقّتنا في البقعة الفوقا. وقد أصرّت علينا أن نزورها في دير ياسين. فكانت فرصة لزوجي ولي أن نرى القرية وأن نقابل الكثير من أهلها ممّن وقع عليهم اختيار القدر الغاشم بعد مدّة قصيرة.
احتفى بنا القرويون، الذين كانوا يحبّون حياة كثيراً، احتفاءً سخياً. كانت أطباق الطعام الكثيرة التي حضّرتها الأمّهات تحملها إلى بيتها تلميذاتها الصغيرات، اللواتي أردن إكرام ضيوف معلمّتهن. لقد كنّا مطوّقين بالكرم العربي، الذي لا يعدله شيء في العالم. كان المرء يشعر أنّ جذوره ضاربة في أسمى تقاليده، يشدّه الإيمان بأنّه، مهما حدث للعالم، فلسوف تبقى تلك الصفات النبيلة درعاً نحتمي به، تتناقلها الأجيال جيلاً وراء جيل.
كان يوماً رائعاً. كانت منازل القرية أنيقة حجرية، وقد بدت مكاناً مسالماً مزدهراً. غنّت لنا الفتيات الصغيرات الأغاني الوطنية، وقدّمن لي غطاء طاولة من كتّان، طرّزته تلميذات أعلى صفّ من صفوف حياة، بحيث طرّزت كلّ تلميذة قليلاً منه، فكانت هديّة جماعية صُنعت خصّيصاً على شرف زيارتي. وفي السنوات التالية، كلّما فكرت في استعمال ذلك الغطاء، كان يغمرني حزن عميق حين أتذكّر وجوههنّ المتحفّزة، وأيديهن الصغيرة، وهنّ يحملن لنا أطباق الطعام وسلال الفاكهة. ما زلت أحتفظ بذلك الغطاء وسوف أتركه إرثاً لواحدة من حفيداتي الثلاث. أمّا أولئك البنات الصغيرات، فقد بقيت صورهن تلاحقني سنين طويلة بعد المجزرة.
كانت آخر مرّة رأيت فيها حياة يوم كنتُ أحزم أمتعتي لمغادرة القدس إلى الأردن، حيث عُيِّن زوجي. كانت تبدو متفائلة، واثقة من نفسها. قالت لي: "سوف أكتب لك، إن لم تمانعي". فقلت لها: "بل يجب أن تفعلي، سوف أرسل لك عنواننا لحظة استقرارنا".
غير أنّي لم أفعل ذلك أبداً. ذلك أنّني لم أستقرّ خلال نصف السنة تلك. ولكنّني كنت أعلم، أو هكذا خُيِّلَ لي، أنّني سوف أذهب إلى القدس قريباً، حيث ما زال والداي وأسرتي يعيشون. ولكنّي لم أفعل ذلك أبداً. فالانقلاب الذي شتّت شعبنا ومزّق بلادنا دهم فجأة، وصوت الناعي كان في انتظار حياة.
حين علمَت ابنةُ خالتي، بيان نويهض الحوت، المؤرّخة الفلسطينية، أنّني أكتب عن حياة، أرسلت لي المذكّرة التالية:
"أذكر جيّداً حياة البلابسة، التي عرفتها من خلالك. قابلتها مرّتين، مرّة خلال تلك الرحلة مع تلميذاتك، حيث لم أعدْ أذكر أين. كانت أختها الضريرة معها، ويومها كنت تصرّين على أمّي أن تسمح لي بالذهاب معك، حتى وافقت أمّي أخيراً. وقد كنت أهتزّ طرباً لسماع الأغاني الوطنية طوال تلك الرحلة بالحافلة. وفي المرّة الثانية أحضرتِها إلى بيتنا في القدس. كانت تُعدّ شيئاً لإذاعته. كنتِ وراء هذا، لأنّها كانت واحدة من أفضل تلميذاتك، وكانت، بطبيعة الحال، في حاجةٍ إلى المال. كان عليها أن ترعى أمّها وأختها الضريرة. وقد استعملتْ مكتبة والدي، إذ تركتِها في بيتنا وذهبتِ. كانت دائمة الابتسام، وعلى شعرها شريط عريض. وحين رأيتها تجلس إلى مكتب أبي لتكتب، قلت لنفسي: حين أكبر أريد أن أكون مثلها تماماً".
"أما بالنسبة إلى ذهابها لتدرِّسَ في دير ياسين، فقد قيل إنّه ليس سهلاً لفتاة أن تقبل وظيفة معلّمة هناك، لأنّ القرية كانت قريبة من اليهود، ولكنّها قبلتها لشجاعتها العظيمة ولحاجتها إلى المال".
"وفيما يتعلّق بوفاتها، فقد بات معروفاً أنّها خرجت من بيتها بملابس النوم وأخذت تساعد الناس. وبينما كانت تفعل ذلك أُطلق عليها الرصاص وأُرديت قتيلة. أذكر رسماً لها: فتاة بملابس النوم البيضاء تحاول مساعدة رجل عجوز…".
إنّ الجزء الأول من هذه الملاحظة من ذاكرة بيان حين كانت فتاة صغيرة في العاشرة.
يُصرُّ الناجون من المجزرة أنّه كان باستطاعة حياة أن تنجو. والحقيقة، أنّ الكثيرين كرّروا القول إنّها هربت حقّاً من المنطقة ذات الخطر المباشر، ولكنها رجعت لتساعد رجلاً جريحاً. إنّي أصدّق هذا القول تماماً.
كان موتها أوّل حزن كبير يمرّ بي. ولكنّه كان حزناً ممزوجاً بالغضب وبصدمة العلم بأنّ خطّة شرّيرة كانت تُطبَّق ضدّنا، نحن الفلسطينيّين، الذين، بالرغم من كفاح ثلاثين حولاً ضدّ المؤامرات الصهيونية، ما زلنا لا نملكُ الخبرة الكافية في المجال السياسي. وقد أكّدت الشهور والأعوام التالية ما كان يومها هاجساً لي، إذ انكببتُ على الأحداث واستمعت إلى ما شعرتُ أنّها تعليقاتٌ وتأويلات تافهة تصدر عن أناس تفترض فيهم المعرفة، وكانت الأغاني التي تُبثّ من المذياع تثير بي الغثيان، ووجهُ حياة الباسمُ شاخصٌ أمام ناظريّ. وجهها، وتلك الأيدي الصغيرة تحمل قِرى الطعام لنا، تلك الأيدي الصغيرة لبنات القرية اللواتي أتيننا يمشين على حذر عبر الدرب الترابي إلى منزل حياة، يوازنَّ الأطباقَ برشاقة لئلا تندلق. يا لتلك الأيام البائسة من نيسان بعد دير ياسين! تلك الأيام التي لا عزاء لها! جاء يوم مولدي وذهب، ولم يلحظه أحد.
لأيام جلستُ في الزاوية ذاتها، وإلى جانبي زوجي، في حداد صامتٍ وتأمّل. وفجأة لمعت في رأسي، فقلت بصوت عال:
"يا له من ذكاء!"
فتساءل زوجي الجالس إلى جانبي، إذ نظر مرتعباً:
"ذكاء؟ وما الذكاء في المذبحة؟"
قلت: "سوف يهاجر الفلسطينيون. وهذا ما يريده الصهاينة".
أعارني كامل انتباهه، ثم قال أخيراً: "نعم، ولكنّك تتكلّمين عن الحاضر. ماذا عن الزمن؟ ماذا عن تبعات الحادث على مدى الزمن؟ لم يكن ذكاءً أبداً".
أمّا حمي، الذي كان غاضباً ومعادياً لهذين المتعلّمين الشابّين اللذين يظنان أنهما يفهمان العالم، فقد زمجر علينا، وقال: "صهٍ، يا هذان! لن يهاجر أحد. لسوف نقاتلهم ونلقي بهم في جهنم!" فغمزني زوجي لئلا أسترسل. ذلك أنّي أميل إلى مناقشة كلّ شيء حتى نهايته، إذا شعرت بأنّي على حقّ.
في الأسابيع التالية، حين كانت سيول اللاجئين الفلسطينيين تعبر الحدود برّاً وبحراً، هاربة إلى الأمان من مذابحَ أخرى ممكنة، تعمّدتُ ألّا أنظر في عيني حمي. لقد أحرزت نصراً في الأفكار على حساب نكبة في هذا الحجم. لكنّه كان يؤكّد: "لسوف نعود قريباً. في الخامس عشر من أيّار سوف تدخل جيوشنا العربية المظفّرة، ومن ذا الذي يستطيع الوقوفَ في وجهها؟" هكذا كان يعزّي نفسه.
لم ينم أحدٌ ليلة الخامس عشر من أيار! كان هناك جوّ من التوقّع المحموم في أنّ دخول الجيوش سوف يحكم بالموت على الغزاة الصهاينة. لم يكن ليتّضح لنا بعد كامل هذه الشباك السياسية، مؤامراتها المراوغة وطريقتها الذكية في اكتشاف الخونة في الداخل، والتنسيق بين أصواتهم ومواقفهم. وبالرغم من حزني الغائر في قلبي على موت صديقتي الصبية، ومن الشكوك العميقة التي خلقتها مذبحة دير ياسين في عقلي، فما كان لي إلّا أن أحسَّ ببعض أمل دافق. حتى السادس عشر من أيار، لم يكن أحد ليكتشف بعدُ مدى اختراق العدوّ لأوساطنا، ولا خططه الذكية حول تماسكنا وحياتنا، ولا تقييمنا المعطوب للمخطّط العالمي الذكيّ الذي يحكم علينا القدر.
كانت دير ياسين البداية، ولكنها كانت أيضاً بداية النهاية. لم يكن هروب الفلسطينيّين من ديارهم بسبب وعود وردية تلقّوها من الجيوش العربية "الغازية"، ولكن لعلمهم أنّهم يواجهون جيشاً موتورا حدّ العمى، لا يعرف الرحمة، جيشاً لا يوقفه شيء حتى يأخذ مآربه. ثم سريعاً ما انتشرت إشاعات الاغتصاب والمذابح بدم بارد. فأرسل الكثيرون من الرجال نساءهم وعجائزهم بعيداً وانضمّوا إلى القتال، لكن سلاحهم كان قليلاً وذخيرتهم كادت تكون صفراً. ويوماً بعد يوم كانت الأخبار تأتي بها الصحف وكلّ مذياع عربي عن مدينة أو قرية سقطت في يد الصهاينة، وعن مواجهة هُزمت، وعن جيش عربي آخرَ شُلَّ في مكانه. يا للفوضى والارتباك في تلك الأيام الثقيلة، يا للذهول والرعب، يا للكفر الشامل!
ما كان لغريب على هذه التجربة أن يعرف الأذى الذي أوقعته تلك الشهور في الروح العربية. ما كان لغريب على هذه التجربة، يعيش عالمه، أو عالمها، المحميّ، أن يسبر غور اليأس والحزن والغضب لدى شعبٍ انتزع فجأة من بيوته التي تعلّق بها طويلاً، وأقصي إلى العالم ضعيفاً معدماً، لكي يستطيع شعبٌ آخر أن يبني له وطناً محلّه. ما كان لغريب على هذه التجربة أن يعرف ما كان يعني أن يكون المرء عربياً في ذلك الزمن، ناشئا في ثقافة يترك فيها العار على ضمير المرء علامة لا تمحى، ثقافة تحتفي بالرجولة وتعتز بالفروسية والشجاعة، تواجه الآن عار هزيمة وطنية مفاجئة غير متوقّعة، قطعت الفلسطينيّين عن جذورهم وأهليهم وبلادهم.
ما زلتُ قادرة على سماع انهيار حواجز الأمل والثقة، حاجزاً بعد حاجز.