تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. تصادف اليوم، الثالث من آذار/ مارس، ذكرى الروائي والقاصّ المصري إبراهيم أصلان (1935 – 2012).
في قصة "بحيرة المساء" (1971) ضمن مجموعته الأولى التي تحمل عنوانها، يُجلس إبراهيم أصلان بطله في المقهى بجوار النهر يتتبّع بعين تتوخّى "الدقة وليس الوضوح"، مقولة كاتب النص الأثيرة، روّاد المكان بتفاصيل لا تُشاهد فقط، إنما تُحس وتُسمع وتُشمّ ويمكن تذوقها أيضاً. كلّ منهم له حكايته التي تتداخل مع حكايات الآخرين في تقاطعات الكلام، وفي رسم مشهد أوسع للمدينة.
يشكو بعض الجالسين من حرارة الصيف التي ألهبتهم في أول أيار/ مايو، وآخران يتحدّثان عن الأزمة المعيشية التي تحول دون زواج أحدهما، وعدم امتلاك ثالث لثمن نقل قبري والديْه من مقبرة إلى مقبرة جديدة يجري العمل على تجهيزها، حيث تمتزج كلماته بكلمات لاعبَي نرد يصرخان بما يظهر على الحجرين، وغيرها من الأحاديث التي ترسم زمناً واحداً لطبقة اجتماعية تتشارك المشاكل ذاتها، وكلّ يحاول أن يفضفض عنها أو ينساها على طريقته.
أما قصة "رائحة المطر" في المجموعة ذاتها، فلا يتوقّف الروائي والقاصّ المصري (1935 – 2012) الذي تحلّ اليوم الأربعاء ذكراه، عن خلق شخصيات جديدة ترتاد المقهى، وقصص مبتكرة كذلك، وبالضرورة تتشابك حواراتهم وكأن القصّة تسجيل حيّ لكل ما يُنطَق جهراً أو همساً، لكن الصخب المنتظم الرتيب سيخترقه هذه المرة اختطاف شاب لطفلة من أمام المكان، سرعان ما ستُخلَّص منه وتعود الحياة إلى طبيعتها.
برع في تحويل شخصياته إلى أبطال في لحظة عبورهم في المكان والتي استطاع تخليدها
يواصل أصلان في نصوص قصصية وروايات أخرى تقطيع مشاهد المقاهي بطريقته، حيث عدسته تلتقط المستجدات التي تطرأ على مكانه المفضل، التي تواكب التحولات في بنية المجتمع وسلوكيات أفراده، فيصبح عبد الله القهوجي في رواية "مالك الحزين" (1983) جاسوساً للشيخ حسني، يخبره بما يحدث في المقهى وخارجه من باب توسيع الرزق.
فعل المراقبة الذي يقوم به أبطال صاحب رواية "عصافير النيل" (1999) ينبع من إحساس عالٍ ومكثف بالمكان من خلال الاقتراب من عواطف الناس المهمّشين وأمزجتهم تجاه ما يعايشونه من أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وهو يدلّ أيضاً على التشابه الكبير في أحوالهم إلى حدّ التطابق أحياناً، بحيث يبدو ما تشاهده شخصية في أحد نصوصه يتداخل مع ما تفكّر فيه وتعيشه في داخلها.
يتحوّل المقهى إلى خشبة مسرح، وهو تعبير استخدمه في وصفه أحياناً، حيث يبرع في ترك الممثلين على سجيتهم ينطقون بكلّ ما هو مألوف ومعتاد من حكايات تشير إلى فقرهم وحرمانهم واضطراباتهم النفسية ونظرتهم إلى ذواتهم وإلى الحياة، لكنه يعلم جيداً متى يقطع النظر باتجاه مشهد ويسلّط الضوء على آخر، ويمنح هذا التفصيل أهمية كبيرة، ويترك تلك المسألة الملحّة باعتبارها تفصيلاً يجري إهمالها أو محاولة نسيانها ولو إلى حين.
خلافاً لأبناء جيله، لم يقدّم أصلان سوى أعمالٍ محدودة تركت أثرها في ذاكرة المتلقي، خاصة أن عدداً منها تحوّل إلى أفلام سينمائية، وظلّت شخصياته عالقة لكثرة ارتباطها بالواقع من خلال مهنها التي احترفتها وأضيفت إلى أسمائها، أو تلك الألقاب التي اخترعها لها مستمدّة من موروث ديني أو شعبي أو أسطوري، وهم لا يمتلكون قصصاً مهمة لسردها، لكن عين الراوي الجالس في المقهى والسائر في الشارع برع في تحويلهم إلى أبطال في لحظة عبورهم في المكان، التي استطاع تخليدها.