تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الحادي عشر من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد الفنان التشكيلي التونسي بيار بوشارل (1894 - 1988).
مثّلت تونس - مثل بقية بلدان شمال أفريقيا - منذ منتصف القرن التاسع عشر منطقة جذب للفنّانين المستشرقين الفرنسيين خصوصاً، والأوروبيين بشكل عام، وكان معظم هؤلاء يُسقطون متخيّلهم على ما يشاهدون، فينتجون لوحة عناصرها من الفضاء المغاربي لكنّ روحها لا تتطابق معه.
في الثلث الأوّل من القرن العشرين بدأت تتبلور رؤية نقدية مضادّة لهذا التوجّه، ومنها بدأت تظهر ملامح فنّ محلّي تجَسَّدَ في ما سيعرف لاحقاً بـ"مدرسة تونس"، وهي جماعة فنية تجمع بين فنانين تونسيين لديهم ميولات إبداعية لا تنسجم مع قواعد البيئة الفنية التي فرضها الاستعمار.
من بين هؤلاء الفنان التشكيلي بيار بوشارل الذي يعدّه بعض مؤرّخي الفن مؤسّساً لـ"مدرسة تونس"، وواضعاً لأبجدياتها التي تَواصَل الاحتفاء بها حتّى ستينيات القرن الماضي، وأخذت مداها بالخصوص في أعمال فنّانين مثل زبير التركي وعبد العزيز القرجي.
وُلد بوشال في مثل هذا اليوم لأسرة يهودية، في زقاق بالقرب من باب البحر بتونس العاصمة، ورغم أنه فكّر في دراسة الفنّ مبكّراً، فإن بيئته الأُسرية لم تكن تسمح بمثل هذا التوجه، فدرس القانون، ثم انتقل إلى باريس حيث مارس الفنّ هاوياً، خصوصاً ضمن الكاريكاتير. التحق خلال الحرب العالمية الأولى بالجيش الفرنسي وأصيب خلال المعارك، وقد كان ذلك سبباً في تحقيق حلمه، حيث أُعفي من التجنيد وأمّنت له منحة العلاج إقامةً في إسبانيا التي درس فيها الفنّ بشكل منهجي.ّ
حين عاد إلى تونس في 1922، أتاحت له عدّته الفنّية أن يشارك بانتظام في المعارض الجماعية التي كانت تقام في العاصمة، ولكنّه عبّر عن قطيعته مع ما كان يجري تقديمه، ومن هنا بدأت تظهر إرهاصات مشروع "مدرسة تونس".
كان المؤثّر التجريدي هو الأبرز في عملية نقل بوشال للبيئة التونسية إلى اللوحة، مع لمسة انطباعية واضحة تميّزه عن بقية زملائه في جماعة "مدرسة تونس"، وبهذه التوليفة تخلّص من الرؤية الاستشراقية وبدأ في تأسيس هوية بصرية خاصّة ستتطور في أعمال الرسّامين التونسيين الذين سيأتون بعده.
حين تكرّست رؤية "مدرسة تونس" بدايةً من الأربعنيات، بل صارت مهيمنة على الساحة التشكيلية في العقدين اللاحقين، بدأت مأسسة هذه الجماعة، وقد تولّى بوشارل رئاستها من نهاية الأربعينيات إلى عام 1956، حين سلّم قيادتها للفن!ان يحيى التركي.
في الساحة الفنّية التونسية، ظلّ اسم بيار بوشارل متداولاً، فلا أحد ينكر عليه ريادته، ولكنّ لوحاته ظلّت مجهولة، وتفاصيل تجربته كذلك، وهي وضعية تنطبق عليها مقولة الناقد الفنّي حاتم بوريال: "في تاريخ الفنّ في تونس، ظَلّ بيار بوشارل أسطورة غير معروفة".