تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع من تموز/ يوليو، ذكرى ميلاد الملحّن اللبناني زكي ناصيف (1918 – 2004).
في كتابه "زكي ناصيف الموهوب العالم" (2016)، يشير الباحث فيكتور سحاب إلى تعدّد المؤثرات التي أغنت تجربة الملحّن اللبناني الذي تحلّ اليوم الإثنين ذكرى ميلاده، إذ أنصت مبكراً لتجويد القرآن الذي يستخدم فيها المرتّل كل مقامات السلّم الموسيقي، وكذلك معرفته وإلمامه بالطقوس السريانية والبيزنطية والترانيم الدينية المسيحية.
ويوضّح أنَّ ناصيف لفت انتباه أحد معلمّي "مدرسة المخلّص"، ويدعى حبيب الشماس، حين بدأ منذ ذلك الوقت في الغناء والعزف على العود في الحفلات السنوية، مع نهاية العام الدراسي، ثم اشترك في فرقة أسّسها الموسيقي نجيب الشلفون، حيث جالت الفرقة في مناطق لبنانية عدة لمدة شهرين في صيف 1933.
إلى جانب تعرّفه في سن مبكرة على أصوات سلامة حجازي وأبي العلاء محمد وسيد الصفتي الذين تحوّلوا من الإنشاد الديني إلى الغناء الدنيوي، بحسب الكتاب، لكنّ نقطة التحوّل الرئيسة في حياته كانت مع التحاقه بمعهد الموسيقى في "الجامعة الأميركية ببيروت" عام 1936، حيث التقى بمدرّس الرياضيات وعازف الأرغن الفرنسي برتران روبيار، كما بدأ تعلّم سونتات بيتهوفن على يد مدرّسة تشيكية. وبالرغم من عمله بالتجارة، خلال هذه المرحلة، فإنها لم تشغله عن مواصلة مشروعه الأساسي في الموسيقى والغناء.
لكن الانطلاقة الرسمية لناصيف، الذي حاوره سحّاب في الكتاب، كانت من خلال "إذاعة الشرق الأدنى" عام 1953، بتشجيع من صبري الشريف، وهناك رافقَ الأخوين رحباني وتوفيق الباشا وفليمون، لتتأسس ما عُرفت لاحقاً بـ"عصبة الخمسة"، وبدأ في تلحين مجموعة من الأغنيات الراقصة الخفيفة التي لاقت رواجاً واسعاً. وعقب توقّف إذاعة الشرق الأدنى، شارك مع أفراد العصبة في "مهرجان بعلبك" عام 1957، لينفرط عقدها بعد نحو عاميْن لتصبح "عصبتين"؛ منصور وعاصي الرحباني مع فيروز وصبري الشريف، و"فرقة الأنوار" التي ضمّت سعيد فريحة وزكي ناصيف وتوفيق الباشا ووديع الصافي.
افتراق ناصيف عن الأخوين رحباني لا يعكس تلك الروح التنافسية التي حكمت علاقتهم فحسب، إنما يعبّر جوهرياً اختلاف في الرؤية والمشروع الموسيقي، حيث أراد الأوّل الغناء لوطن واقعي غير ذاك المتخيّل الذي رسمه عاصي ومنصور، فكانت أغاني زكي تجسيداً لفكرة البناء والعمل للوطن كما في "بكرا الأرض" و"هلّي يا سنابل"، بينما ذهب الرحابنة إلى "وطني يا جبل الغيم الأزرق" أو "من ذهب الزمان الضايع".
لم يبتغ ناصيف أسطرة لبنان، بل كرّس جملته اللحنية البسيطة التي يراها تطوّراً لغناء الفلاحين والرعاة في مسقط رأسه، بلدة مشغرة، ويصف الأكاديمي الموسيقي اللبناني وليد غلمية ألحانه بأنّها "تبدو سهلة وعند التنفيذ تتضح صعوباتها"؛ ألحان تنتمي من وجهة نظر مؤلّفها إلى تراث بلاده الشام مؤمناً أنه "ليس ثمة موسيقى لبنانية خالصة"، ما سيطوّره بانتمائه السياسي إلى "الحزب القومي الاجتماعي" الذي لحّن نشيده أيضاً.
واستطاع صاحب أغنية "يا عاشقة الورد" أن يحقّق لنفسه ذلك الموقع المغاير في مرحلة تأسيس الغناء اللبناني، وأن يترك أثراً لا يمحى كما في أغانيه التي لحّنها لنفسه مثل "راجع يتعمّر لبنان" و"غنيلي بالليل الهادي"، أو في تلك التي لحنها لغيره ومنها "وحياتك يا درب العين" لـ نصري شمس الدين، و"طلوا احبابنا طلوا" لـ وديع الصافي".
ترك زكي ناصيف أكثر من خمسمئة لحنٍ هي خلاصة بحثه الموسيقي؛ النظري والعملي، في التراث على نحو أساسي، ومحاولته الإضافة من خلال عمله على الانسجام والتناغم اللوني والايقاعات النابضة بالحياة، وكذلك تقديمه أغاني كُتبت معظمها بصيغة الجمع "نحن"، للتعبير عن ذلك "المفرد" في إبداعه وموسيقاه، لكن دون أن يتخلّى لحظة عن "الجماعة" التي كتب وغنى لها.