تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم الثاني عشر من نيسان/ أبريل ذكرى ميلاد اللغوي التونسي صالح القرمادي (1933 – 1982).
في كتابه "حركات الشعر الجديد بتونس" (2008)، يلفت الكاتب سوف عبيد إلى أن صالح القرمادي ــ الذي تحلّ اليوم الثلاثاء ذكرى ميلاده ــ يمثّل "ثالث ثلاثة كان لهم الفضل في تطوّر الأدب التونسي الحديث في النصف الثاني من القرن العشرين، وهم منجي الشملي وتوفيق بكّار وصالح القرمادي"، موضحاً بأنه كان من بين قلّة من التونسيين في تلك المرحلة ممّن درسوا بقسم الأداب الكلاسيكية فكان أن أتقن: الفرنسية والإنكليزية واليونانية واللاتينية، وكلّها لغات أيدته أثناء دراسته اللاحقة للألسنية".
ويبيّن أن "الملاحظة الأساسية التي تلوح في أشعار القرمادي أنّها تختلف اِختلافاً جذرياً مع متن شعراء جيله من الذين ظهروا في نفس المرحلة تقريباً، وهي تمثّل مرحلة ظهور واِكتساح نمط قصيدة التفعيلة بما فيها من غنائية والتزام بالمضامين الاِجتماعية بينما قصائد 'اللحمة الحية' ذات مواضيع أخرى تنطلق من مشاعر الإنسان المأزوم والمهموم بالمواضيع البسيطة والثقيلة في أوزارها، كما هو منشغل بالأسئلة الكبيرة في الحياة والموت".
ويرى عبيد أن القاموس الشعري لدى اللغوي والشاعر التونسي (1933 – 1982) يختلف عن القاموس الشعري المستعمل في ستينيات القرن العشرين، "ومخالفته للذوق السّائد تصل إلى السّخرية من بعض المفاهيم القديمة وعاداتها الشكلية المتحجرة"، مشيراً إلى أنه اختلف في مسائل جوهرية مع الذين يدافعون عن سلامة اللّغة العربية، فهو يراها تستطيع أن تهضم بسهولة الكلمات الجديدة لأن تاريخها الزاخر يثبت أنها لغة متطوّرة متفاعلة مع الظّروف التاريخية الجديدة، وهو يرى أن الشعر أوسع من العروض، لذلك لا يحفل في شعره بالقافية والتفعيلة.
اكتسبت ترجمته لكتاب "دروس في علم الأصوات العربية" للمستشرق الفرنسي جان كانتينو أهمّية كبيرة
أصدر القرمادي ديوانه الأول "اللّحمَة الحيَّة" عام 1970، والذي احتوى تداخلاً واستيعاباً بين مُستوى اللغات العربية والفرنسية والمحكيات العامّية التونسية، في توليفة إبداعية تضمّنت نظرته الفلسفية تجاه العديد من القضايا التي تشغله، كما تعكس ذلك مرثيتُه لنفسه التي تحيل إلى تجرية صوفية وجودية، حيث يقول: "متُّ مرّة بينكم/ وهل أموت أبداً/ فلا تقرؤوا عليّ 'الفاتحة' و'ياسين'/ اتركوهما لمَن يرتزق بهما/ لا تذروا على قبري حبوب التين المُجفّفة/ لتأكلها طيورالسماء/ فالأحياء بها أولى".
في منتصف الخمسينيات، حاز عدّة شهادات دراسات عليا حول ابن رشد، وفي تاريخ الفلسفة العربية من باريس، وحين عاد إلى تونس برز كواحد من الأسماء التي ساهمت في إقامة قسم متخصّص في الدراسات الأدبية واللغوية في "الجامعة التونسية"، إضافة إلى مشاركته في تأسيس مركز للدراسات والأبحاث الاجتماعية في الفترة نفسها.
اكتسبت ترجمته عام 1966 لكتاب "دروس في علم الأصوات العربية" للمستشرق الفرنسي جان كانتينو أهمّية كبيرة، حيث أتى في مرحلة كانت المكتبة العربية تفتقد فيها إلى مراجع أساسية في الصوتيات، خاصة أنه يدرس تطوّر النظام الصوتي في اللغات السامية وفي العربية القديمة وصولاً إلى اللهجات الدارجة، سواء في نظام الحروف أو الحركات أو المقطع ونبرة الكلمات في الجمل وفي الإيقاع.
انشغل في دراسة الأصوات اللغوية في العديد من الأبحاث التي نشرها على مدار عشرين عاماً، وكذلك قضايا التعدّدية اللغوية في بلدان المغرب، وتعريب المصطلحات والمفاهيم، وترك تأثيراً واسعاً لدى طلبته في الجامعة. بعد اختفائه عدّة أيام، عُثر على جثة القرمادي في الخامس والعشرين من آذار/ مارس سنة 1982، في منطقة تاكلسة في ولاية نابل، ولم يكن حينها قد بلغ الخمسين عاماً.