تستعيد هذه الزاوية شخصيّة ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، السادس من تشرين أول/ أكتوبر، ذكرى ميلاد الشاعر والسياسي المصري محمود سامي البارودي (1839 – 1904).
تجتمع روافد ثقافيّة واجتماعية وسياسية عديدة في شخصية الشاعر المصري محمود سامي البارودي (1839 – 1904)، الذي يُصادف اليوم ذكرى ميلاده. كما تتقاطع في سيرة حياته ظروفٌ وأحداثٌ مميّزة في تاريخ بلاده عموماً، وهذا ما جعل منه واحداً لا من روّاد التجديد والنهضة الأدبية في القرن التاسع عشر، بل وأعيان السياسة في البلاد.
وُلِدَ البارودي في سراي البارودي الواقعة قُربَ باب الخلق في القاهرة، وقد نشأ في وسَطٍ ثريّ، وعُنِيَت والدتُه بتهذيبه وتعليمه فألحقته بالكُتَّاب، واهتمّت بتَنشِئَتِه تنشئةً عسكرية كأبيه. فأتمّ المرحلة الابتدائية وهو ابنُ اثنتي عشرة سنة، وقد أهَّلته تلك الدراسة إلى الالتحاق بالمدرسة الحربية التي تخرّج فيها عام 1852. ثم انتظم في المرحلة التجهيزية التي درس فيها فنون الحرب، وعلوم الدين واللغة والحساب والجبر، وبدأ يُظهر شغفاً بالشعر العربي.
عام 1857 سافر البارودي إلى إسطنبول، وقد أعانته إجادتُه للغة التركية، وكذلك معرفته اللغة الفارسية على الالتحاق بنظارة الخارجية التركية، وظلّ هناك نحو سبع سنوات، حتى عام 1863. قبل أن يعود إلى مصر، ليُعيّنه الخديوي إسماعيل مُعِيناً على إدارة المكاتبات بين مصر وإسطنبول.
لعبت والدتُه دوراً في تنشئته الأولى فتمكّن من إجادة التركية والفارسية والعربية
لكنّ هذا العمل البيروقراطي المحدود لم يُلبِّ طموحاته لا العسكرية ولا الأدبية، حيث نجح، لاحقاً، في الانتقال منه إلى الجيش، وعُيّن قائداً فيه. كما أُتيح لمواهبه الشعرية، في هذه الفترة، أن تتجلّى، وهو الذي استوعب التراث العربي وقرأ روائع الشعر بلغات ثلاث في وقت مُبكّر، فكان ذلك من أولى عوامل التجديد الشعري عنده.
تنبّه البارودي إلى أطماع القوى الاستعمارية، وقد بدأت دقّ أبواب العالم الإسلامي، والتدخُّل في شؤونه الداخلية، ومن ذلك توجيه إنكلترا وفرنسا للسياسة المصرية، بعد أن صار لهما وزيران في الحكومة، وكردّة فعل على ذلك نشطت الحركة الوطنية وتحرّكت الصحافة، وظهر تيارٌ حمل على عاتقه إنقاذ العالَم الإسلامي من الاستعمار. وفي هذه الأجواء نظم البارودي أشعاره التي أراد لها إيقاظ الغافلين ممّا تحيكه لهم تلك القوى، يقول: "لكنّنا غَرَضٌ للشرّ في زمن/ أهلُ العقول به في طاعة الخَمَلِ/ قامت به من رجال السوء طائفة/ أدهى على النفس من بُؤس على ثكل/ ذلّت بهم مصر بعد العزّ واضطربت/ قواعد المُلْك حتى ظلّ في خلَلِ".
وإذا كان من أحداثٍ ارتبط اسمُه فيها على الصعيد السياسي، فهُما: اشتراكُه عام 1865 في إخماد ثورة جزيرة كريت قرب السواحل اليونانية. وانخراطُه، بصُحبة أحمد عُرابي في الثورة الشهيرة التي وقعت ضدّ الخديوي توفيق عام 1882.
تعود قصة البارودي مع الخديوي توفيق إلى عام 1879، حينها أُسندت إليه نظارة المعارف والأوقاف. ونظم البارودي شعراً يُحيّي فيه توفيقاً بولايته على مصر، ويستحثّه إلى إصدار الدستور وتأييد الشورى. غير أنّ الخديوي تراجع عن خطواته الإصلاحية فنفى جمال الدين الأفغاني من البلاد، وأجبر شريف باشا على تقديم استقالته.
نبّه في شعره إلى خطورة التدخّلات الاستعمارية وقادته تلك المواجهة إلى النفي
نهض البارودي بالأوقاف، وكوّن لجنة من العلماء والمهندسين والمؤرّخين للبحث عن الأوقاف المجهولة، وجمع الكتب والمخطوطات الموقوفة في المساجد، ووضعها في مكان واحد، وكانت هذه المجموعة نواة "دار الكتب". كما تمكّن من تولية المُصلِح محمد عبده تحرير جريدة "الوقائع المصرية". وبعد فترة جمع إلى جانب الأوقاف، وزارة الحربية بعد مطالبة حركة الجيش الوطنية بقيادة أحمد عُرابي بتوليته، وهنا بدأ البارودي في إصلاح القوانين العسكرية مع زيادة رواتب الضبّاط والجُند.
انتهزت إنكلترا وفرنسا خلاف البارودي وعرابي مع الخديوي، بعد رفض الأخير إنزال الحُكم بمجموعة ضبّاط تآمروا لاغتيال البارودي وعرابي. وهنا حشدت كلٌّ من القوّتين الاستعماريّتين أسطوليهما في الإسكندرية، مُنذرتَين بحماية الأجانب، وقدّم قنصلاهما مذكّرة بضرورة استقالة الوزارة، ونَفْي عرابي.
قابلت وزارة البارودي هذه المطالب بالرفض، فلم يكن أمامه سوى الاستقالة، ثم تطوّرت الأحداث، وانتهت بدخول الإنكليز مصر، والقبض على زعماء الثورة العُرابية وكبار القادة المُشتركين بها. وحُكِم على البارودي وستّة من زملائه بالإعدام، ثم خُفِّف، في 3 كانون الأول/ ديسمبر 1882، إلى النفي المؤبَّد إلى جزيرة سريلانكا.
أقام البارودي في الجزيرة سبعة عشر عاماً، وطوال هذه الفترة نظم شعر الحنين إلى الوطن، ورثى من مات من أهله وأحبابه وأصدقائه، قبل أن يُسَمح له بالعودة بعد أن تنادت الأصوات بضرورة رجوعه إلى مصر، فعاد في 12 أيلول/ سبتمبر 1899.
اعتزل البارودي العمل السياسي بعد عودته وتفرّغ للأدب، حيث تحوّل منزلُه إلى ملتقىً للشعراء من أمثال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران الذي يمثّلون التيّار الإحيائي في الشعر العربي الحديث. وإلى جانب ديوانه الذي يحتوي على خمسة آلاف بيت، ترك أيضاً، مُختاراته من الشعر العباسي وبلغت أربعين ألفَ بيت.