راؤول زوريتا قارئاً "تَعِبَ المُعَلَّقون"

31 ديسمبر 2023
الشاعر التشيلي راؤول زوريتا
+ الخط -

قليلة هي التجارب الشعرية المعاصرة التي تحظى باحترام وتأثير في لغتها كهذين اللذين تحظى بهما تجرية الشاعر التشيلي راؤول زوريتا، الذي يعدُّ أبرز وارث ومجدّدٍ لتلك القصيدة الفريدة التي استطاع بلده تشيلي تقديمها إلى العالم، مع أسماء مثل غابرييلا ميسترال وبابلو نيرودا. مكانة استحقها عبر أكثر من ثلاثين كتاباً، حملت هموم قارّته ورشّحته هذا العام لجائزة "نوبل"، ناهيك عن مواقفه التقدمية ونضاله ضد الدكتاتورية. 

في ذروة إبداعه، يكتب زوريتا في مؤلَّفه الجديد "Ensayos reunidos"، الصادر عن دار نشر "راندوم هاوس"، نصوصاً إبداعية عن شعراء وروائيّين وفنانين كلاسيكيّين ومعاصرين، حيث قرأ هؤلاء المبدعين على خلفيّة بعض الحلقات المأساوية من تاريخ البشرية. من دانتي أليغييري وفرانسيس بيكون وبابلو دي روكا، مروراً ببورخس وبابلو نيرودا وفريناندو بيسوا، وصولاً إلى ميسترال وإيديا بيلارينيو ونجوان درويش.

تنشر "العربي الجديد" هنا النصَّ الذي كتبه الشاعر التشيلي عن كتاب "تَعِبَ المُعَلَّقون" للزميل الشاعر الفلسطيني نجوان درويش.


"لو قُدِّر لي أَنْ أَعود
فلن أَعودَ تحتَ رايةٍ أُخرى 
أُعانقكِ بِيَدينِ مَقطوعتين 
لا أُريدُ أَجنحةً في الجَنَّة
أُريدُ مَراقِدَكُم عِنْدَ ضِفَّة النَّهر 
أُريدُ الأزَل على طاولة الفطور 
مع الخُبز والزَّيت 
أُريدُك أَنتِ
يا أَرض
يا رايتي المَهزومة". 

تُمثِّل هذه القصيدة الموجودة في القسم الخامس من كتاب "تَعِبَ المُعَلَّقون" للشاعر الفلسطيني نجوان درويش، بجمالها الآسر، إحدى لحظات الذروة في شعر مؤلِّفها، وفي الكتابة الشعرية في عصرنا على حدٍّ سواء. تُظهر لنا هذه الراية المهزومة مشهداً جوهرياً، كما هو الحال في شعر نجوان درويش كلّه، وقد يكون هذا المشهد داخلاً في صميم ما نستمر في تسميته بالإنساني؛ حيث توجد مشاعر إنسانٍ على وجه الخصوص. أي ذلك الحنين المفاجئ الذي يتشبّث بنا، وتلك الرغبة، وذلك الحبّ، في لحظة انصهار مع الحنين والرغبة والحبّ للإنسانية جمعاء.

هكذا نفهم، إذاً، كيف يضعنا شعر نجوان درويش متعدّد القراءات؛ منذ ديوانيه "كلما اقتربت العاصفة" و"استيقظنا مرّة في الجنة"، وصولاً إلى "تَعِبَ المُعَلَّقون"، أمام سيمياء شيء بعيد، شيء لا يمكن وصفه أو الحديث عنه، لكنّه في الوقت نفسه، يقول لنا إنَّ الشعر، في المقام الأول، تعاطفٌ وتضامنٌ مع كل تفصيل من تفاصيل هذا العالم: من أجل ذلك الخبز والزيت تحديداً، ومن أجل الفطور الأزلي، ومن أجل تلك الأرض و"مَراقِدَكُم عِنْدَ ضِفَّة النَّهر". 

تُخبرنا القصيدة عن تلك المراقِد، وتقول لنا بشكلٍ واضح إنّها موجودة هناك، بالقرب من ضِفَّة النهر. وإذا كانت هذه الصورة تؤثّر فينا للحظة واحدة، فلأنها تُظهر لنا أنّنا قد دُفنّا جميعاً في تلك المراقد، وأنّنا في الوقت نفسه بكينا عليها جميعاً. بصرف النظر عن أوطاننا، وأصولنا، وتاريخنا، واللغات التي نتحدّث بها. بل وبصرف النظر أيضاً عن الزمن الذي عشنا أو مُتنا فيه.

قصائد تمثّل صراعاً بين الكلمات وبين ما ليس ممكناً قوله

وهكذا معلَّقين على صلبانٍ لا تنتهي تنهض في أمكنة لا نهاية لها، تمرُّ الشخصيات الموجودة في الأقسام السبعة من الديوان، والتي طُردت من أرض أجدادها، وحُوصرت واضطهدت بشكلٍ دائم، بما في ذلك النساء اللواتي فقدّن كل شيء: البيوت والأحياء والأطفال، وتؤكّد حضور الآخرين، حضوري، وحضورك عزيزي القارئ. وتخبرنا هذه الشخصيات جميعاً بأنَّ كل ما بقي منا قد نجا على هذه الأرض المليئة بالضحايا والجلادين، المُهجَّرين والنازحين. وإذا استطعنا أن نؤكّد أننا أمام شعرٍ سياسي، فذلك لأننا نجونا من حربٍ لم تنتهِ بعد. 

وبعيداً عن شعور الشفقة ورثاء الذات، ينتقل شعرُ نجوان درويش بين القرى والمناظر الطبيعية والأحياء والمدن والبلدات بألفة مؤثّرة غالباً ما تُسمّي الأشياء بسخرية وفكاهة، ويفعل ذلك منذ ثلاثة آلاف عامٍ من تاريخ يحتفظ في كلّ ركن من أركانه ببقايا أبدية مُمزَّقة، كما لو أن هناك إلهاً كامناً، لا اسم له، يسرّه نسج العذاب والمصائب.

غلاف الكتاب
غلاف كتاب "Ensayos reunidos" للشاعر التشيلي راؤول زوريتا

يتمثّل هذا الحضور الذي لا يُطاق، والذي - كما أقول - لا اسم له، على سبيل المثال، في قصيدة "في مخيم شاتيلا" حيث يؤكّد مشهد القصيدة الرئيس، فجأةً، القوّة والطاقة كلّها التي تميّز شعر درويش. عناصر القصيدة بسيطة بقدر ما هي حاسمة: "عايشين بذل هون"، تقول العجوز في الأسطر الأولى من القصيدة، ثم تتابع تأكيدها القاسي، الذي لا يمكن دحضه، أنّ هذه الكلمات الثلاث قالت كلّ شيء، وبالتالي عبّرت عن "سنوات العذاب" وعن "أنهر الندم" لتاريخ يبدو أنّه مكتوبٌ بحضور ذلك الإله المشوّه الذي، لو كان موجوداً حقّاً، فإنه لن يظهر شيئاً آخر إلّا أن الحقيقة هي الكذبة الأكثر خطراً لأنّنا نموت ونُقتل من أجلها: 

"’عايشين بِذُلْ هون‘...
في كلمتين
في لحظتين تقولُ لك كلَّ شيء،
أَنهرٌ مِنَ النَّدم 
سنواتٌ طويلةٌ من العَذاب 
تَغرَقُ في الكلمتين".

تُضفي نهاية القصيدة على المشهد طابعاً مقدّساً، خصوصاً مع تلك الصفعة التي يشعر بها من تخاطبه العجوز وهي تبتعد. وليس ذلك بسبب الإله الكامن، بل لأنّه لا يمكن أن يوجد إنسان في العالم لن يكرّر: 

"ماذا قالت لك وهي تُودِّعك 
ماذا وَعَدتها وأَنت تُودِّعها
كيف أَمكنك أنْ تَبْتَسِم دونَ اكتراثٍ لأَسيجةِ الحُدودِ الشّائكة
وهي تَلتفُّ على قلبك ـ ومياهُ البَحْرِ مالحة...
كيف أَمكنكَ
كيف أَمكنك...
يا ابن الحرام!"

لكن، من هو ذلك الإله المجهول الذي يظهر في ديوان "تَعِبَ المُعلَّقون"، من هو إلا تلك القوة المُمزِّقة التي تجرّنا من الأكمام وتحاول أن توقفنا بينما نهاجر ونتبعد؟ لا يهمّ إن كان إلهاً أو نبياً أو شخصاً عادياً. إنّه إنسان يتعذّب فحسب.

جميع الفجوات الرهيبة والقاسية لكلّ لحظة من تلك اللحظات
 

هكذا، بدءاً من صورة البحر الآسرة الذي يرغب الشاعر في دعوته كمثل جارٍ طيب لتناول القهوة، في قصيدة "جيرة الكرمل" - التي يبدأ فيها القسم الثاني من الكتاب -، وصولاً إلى القصيدة الأخيرة منه، والتي تحمل عنوان "كلّها"، ندرك أنَّ كل سطرٍ من سطور ديوان "تَعِبَ المُعَلَّقون" مكان لصراع جسدي حتى الموت، بين الكلمات وبين ما ليس ممكناً قوله. 

ولا يمكن أن نعبّر عن اضطراب ذلك السنتيمتر الذي يفصلنا عن السيدة العجوز في شاتيلا. وليس ثمّة كلمات لتسمية ذلك الرعب المطلق. أو كلمات للتعبير عن تلك اللحظة الدقيقة التي يصبح فيها جسد طفل حيّ جسدَ طفل ذُبح. تنقصنا صورٌ كي نثبّت تلك الثانية متناهية الصغر التي يتحوّل فيها شخص ما إلى كومةٍ من لحم وعظم ألقتها ديكتاتوريات أميركا اللاتينية في البحر. أو إلى كومة أعضاء متناثرة لمواطنين فلسطينيين سحقهم القصف الإسرائيلي في غزة. أو في مخيمي صبرا وشاتيلا.

ليس ثمة كلمات أو عبارات لنتخيّل ما هي تلك الأسئلة، أو تلك الذكريات التي تجتاح شخصاً ما عند ذلك الحدّ الوحشي الذي يموت فيه على يد رجال آخرين. ولهذا السبب تحديداً، لأنَّ هذه الكلمات ليست موجودة، يجب أن نقولها كي نستحضر إلى هذا الجانب من العالم جميع الفجوات الرهيبة والقاسية لكل لحظة من تلك اللحظات.

مع ذلك، بعد أن طُردنا من أفق اللغة، يجب علينا أن ننهض من تلك الاستحالة كي نعود مرّةً تلو أُخرى إلى ذلك الحد الأقصى من الموت الذي لا يمكن تمثيله في أرض تفيض بالموتى. هذا هو الواجب الأخلاقي الذي يحمله شعر نجوان درويش. 

غلاف الترجمة الإسبانية لكتاب "تعب المعلقون" الصادرة عن دار نشر "Vaso Roto"
غلاف الترجمة الإسبانية لكتاب "تعب المعلقون" الصادرة عن دار نشر "Vaso Roto"

في تاريخ مليء بالكلمات غير المُكتملة، والجمل المقطوعة في منتصف الطريق، والمقاطع التي لا تقول ما تريد أن تقول، أخذ الشعر على عاتقه مهمة أن يكون التاريخ الهائل لكلّ هذا العنف. أخذ على عاتقه مهمّة أن يكون سجل الرّحمة الذي ليس أقل من ذاك: الرحمة علينا كلّنا نحن الذين قُتلنا، ونحن الذين سنموت، بسبب المرّات كلّها التي هجرنا فيها تلك المرأة في شاتيلا، والتي تخبرنا القصيدة أنّها في الخامسة والستين من عمرها. أو لأنهم هجرونا منذ ثلاثة آلاف سنة، عندما كان الجندي المتنكّر - كما تقول "قصيدة جندي متنكِّر" -، قد توقّف عن كتابة الشعر، وظلَّ مختبئاً دون أن يعلم أنّ الحرب قد انتهت. ولكن، حين توقّف عن الكتابة، لم يكن يعلم أنَّ الحبّ قد انتهى أيضاً، ولهذا استيقظ في أرضٍ ليس فيها سوى الأموات.

القصيدة رائعة لأسباب عدة، من بينها تحديداً، افتقارها لأي نبرة خطابية، كما لو كانت تعرض شيئاً يحدث كلّ يوم:

"آخر مرّة كتبتُ شعراً 
قبل ثلاثة آلاف سنة 
كنتُ أيّامَها جُندياً مُتَنَكِّراً بَعْدَ حَربٍ لَمْ يَصِلْهُ خَبَرُ انتهائها
وها أنا الآن أُحاوِلُ مِنْ جَديد؛
غُبارُ السَّنوات مِثْلَ غُبار المَقابر
أخرجُ مِنَ الأرض كالبذْرَةِ تَتَفَتَّق
كالبُرْعُم يَتفتَّحُ في الغُصن
كالأموات
يَنتشرون في أرضٍ ليسَ فيها سِوى الأموات".

ورغم كل شيء، وكمثل نوع من الأمل اليائس، تنفتح القصيدة على الومضة الباهتة للولادة الجديدة، كمثل تلك البذرة التي تتفتّق، منتشرةً في أرض ليس فيها سوى الأموات. في عالم من الضحايا والجلادين، أخذ الشاعر على عاتقه مهمة أن يكون الضحية الأولى، وأن يعبرَ أرض الموتى والصمت، وأن يكون أوّل من نهض من جديد كي يقول لنا إنه على الرغم من كل شيء ستأتي أيام جديدة. ضمن هذا المعنى، تعود قصائد نجوان درويش لتنبثق، على مستوى الأرض، من صمتها، وتخبرنا أنه لن يكون هناك شيء لولا حقيقة أنَّ الأمل بيوم جديد محفورٌ في أحلام البشر التي لا تموت.

شعر أخذ على عاتقه مهمة أن يكون التاريخ الهائل للضحايا
 

وقد يكون السؤال الأخير الذي يتركه هذا الشعر الاستثنائي لنا، نحن القرّاءَ، هو التالي: كيف يمكن مواجهة هذا الكم اللامتناهي من عذابات مئات وآلاف اللاجئين الذين يموتون، يومياً، في البحر المتوسط؟ كيف يمكن مواجهة مئات وآلاف المخطوفين الذين قطعَ تُجّار المخدرات رؤوسهم؟ كيف يمكن مواجهة القصف اللانهائي والجوع؟ وكيف يمكن تحمّل ذلك؟ ولماذا لا تنتحر تلك المرأة التي سحقت دبابةٌ أولادها؟ ولماذا يواصل ملايين الذين يعيشون في ظروف لا توصف القتال من أجل حقهم في الحياة؟

مهما كان الجواب، ولو جمعنا الأسباب كلها - حتى لو كانت دون معنى، أو لا يمكن سماعها أو التفكير فيها - التي تجعل أولئك البشر المحطمين لا يقتلون أنفسهم ويختارون، لحظة وراء أُخرى، البقاء على قيد الحياة، فإن عملية الجمع هذه ستشكّل صورة الجنة، أو صورة ذلك البرْعُم الذي يَتفتَّحُ في الغُصن. وهناك ستشرق الشمس، وسيعود الزوج من عمله محطّماً، وهناك سيكون المنزل الذي أعيد بناؤه، والحليب المفقود الذي لم تعطهِ الأم لابنها الذي يحتضر. وبكل تأكيد سيعود الخبز. وسيعود السرير وفراشه الدافئ الذي ينتظرنا بين الركام: 

"عَرَباتٌ تَجُرُّها خُيولٌ سعيدة 
أم أكورديونات 
كُلُّهُ تجوالٌ يا عزيزتي 
باصاتٌ مُتَجَهِّمَة وقَريباتٌ يُعْوِلْنَ على العَتَبات
كلُّها رِحلة 
وها قَدْ عُدنا منها.
أُسمّيها الأرض ولا أخجلُ مِنَ التَّسمِية
كلُّها أرض 
كلُّه موت".

معلّقون إذاً على صليبٍ من الرُّكام والموت، من الحبّ والعار، نلمحُ حدود الأبدية التي لا يمكننا الفرار منها، تلك الأبدية التي تحكمُ علينا بالموت. مع ذلك، إذا قرأنا هذا الشعر الذي بين أيدينا، يمكن حينها أن نحبّ حكم الموت هذا؛ وبذلك نحبُّ الأرض كلّها، رايتَنا المهزومة. 


* شاعر تشيلي ولد في العاصمة سانتياغو عام 1950، ويعتبره النقاد أبرز الشعراء الأحياء اليوم في عالم اللغة الإسبانية. حصل على "جائزة بابلو نيرودا" و"الجائزة الوطنية للأدب" في التشيلي، وأبرز التكريمات في العالم الهسباني مثل "جائزة الملكة صوفيا" و"جائزة فيدريكو غارسيا لوركا للشعر العالمي"، وبرز اسمه في السنوات الأخيرة كمرشح لنيل "نوبل للآداب".

** ترجمة عن الإسبانية: جعفر العلوني

المساهمون