في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، رحل الباحث والكاتب والشاعر الفلسطيني رجائي بصيلة (1929 - 2020) في مدينة إنديانابوليس الأميركية، بعد أن دوّن سيرته في مجموعاته الشعرية وفي كتابين سرديين، صدرت جميعها باللغة الإنكليزية.
شكّل الحنين إلى فلسطين موضوع أساسياً في كتابته التي أراد منها توثيق التفاصيل التي عاشها قبل النكبة، وقدرته على تجاوز فقدانه البصر في الثانية من عمره، حيث استطاع أن يواصل تعليمه حتى حصوله على الدكتوراه في الأدب الإنكليزي، الذي درّسّه لعقود في جامعات أميركية وعربية.
في كتابه "سقوط اللد" (1981)، عاد بصيلة إلى حادثة وقعت خلال الأشهر التي سبقت النكبة، حيث كان يسير برفقة أحد جيرانه، وفجأة حلّقت طائرة في السماء ليبادر جاره بالسؤال: "هل تعتقد أننا سنتمكن من إعادتهم من حيث أتوا؟". لم يستحوذ القلق على الفتى لوحده، حيث يذكر أن والده بدا مهموماً هو الآخر في تلك الفترة، حتى وقع أول هجوم على المدينة بقذئف الهاون والصواريخ.
يصف بصيلة في سيرته كيف دخل اليهود المدينة وارتبكوا مجزرتهم
ويشبّه ذلك الهجوم بأوّل زخّة في موسم المطر، لكن الرعد هذه المرة جاء في الصيف، مشيراً إلى تدمير بعض المنازل وارتقاء شهيدين، ليعتاد أهل اللد بعد ذلك على هجوم العصابات الصهيونية كل يوم، وصولاً إلى حصارها وعزلها عن محيطها، فلم تعد تصل الصحف اليومية، وأصبحوا يتجمعون حول أجهزة المذياع التي يمتلكها عدد قليل من الناس.
ويشير بصيلة إلى أنهم كان يستمعون إلى ما تحققه الجيوش العربية من انتصارات وبطولات على الأرض. ورغم ذلك بدأت تصل أخبار سقوط مدينتي عكّا وحيفا، ثم إشاعات عن سقوط صفد، وكذلك أنباء المجرزة التي ارتكبها الصهاينة في دير ياسين، وبقي الاعتقاد بأن المقاتلين في اللد كثيرون وأكفاء ولديهم القدرة في الدفاع عنها.
مع استمرار الهجمات، انتظر الناس أن تأتي المساعدات من شرق الأردن، وكانوا مؤمنين بقدومها، لكنها أتت في منتصف أيار/ مايو 1948 بأقل بكثير مما يتوقعون، وظلّ الناس محتفظين بمعنوياتهم العالية حتى وصلت الأنباء بسقوط بمزيد من المدن والبلدات بيد العصابات، ومنها يافا والعباسية وبيت دجن والصرفند، وكيف أن الجيوش العربية التي كانت تقاتل قريبة من اللد لم تتمكّن من الوصول إليها حتى توقيع الهدنة الأولى في حزيران/ يونيو من العام نفسه.
في التاسع من تموز/ يوليو، استيقط رجائي في وقت باكر جداً بسبب إطلاق نار كثيف، بحسب الكتاب، واستمرت المناوشات خلال اليومين التاليين واستخدم اليهود المدافع الثقيلة والدبابات بأعداد كبيرة تفوق بكثير أعداد المقاومين الفلسطينيين، ما مكّنهم من احتلال القرى المحيطة باللد، كما سيطروا على المطار الدولي فيها، وألقت الطائرات منشورات تدعو الأهالي إلى الاستسلام ومغادرة المدينة.
ويبيّن بصيلة كيف دخل اليهود في صباح الثالث عشر من تموز/ يوليو إلى اللد، وارتبكوا مجزرتهم بقتل قرابة أربعمئة فلسطيني وهمّ يفروّن من منازلهم، وكذلك الذين احتموا بمسجد دهمش، وعقب ذلك تمرّكزوا في جميع أنحاء المدينة ومعهم مكبرات الصوت وبنادقهم المعمّرة، داعين الناس إلى الرحيل كي يتفادوا ما وقع في المسجد، وبدأ توجيه الجموع في مسار مليء بالحجارة والشوك، وهم يطلقون النار في الهواء والشتائم باللغة العربية حتى هُجّر الجميع، لتقوم العصابات بنهب وسلب بيوت المدينة.
وتكتمل تفاصيل المجزرة التي وقعت خلال شهر رمضان، حيث واجه الناس حقد الاحتلال في عزّ العطش، وخرج رجائي الطفل مع عائلته من المدينة والجثث تتوزّع في الطرقات والناجون يعاقبون بالطرد الجماعي حيث تدفّق الناس إلى رام الله، لتتكرّس مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين مع تنفيذ خطط اليهود التي أعلنوا عنها منذ فترة طويلة، وتتمثّل في إخلاء البلاد من شعبها وإرساله إلى المنفى الدائم، بحسب الكتاب.