رستم شبورتا.. حياة مفتي بريزرن وسجنه ومخطوطاته العربية

25 يوليو 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تاريخ بريزرن والتحولات السياسية:** بريزرن، مدينة من القرون الوسطى، شهدت تحولات تحت حكم الإمبراطوريات البلغارية والصربية والعثمانية، واستقرت تحت الحكم العثماني لمدة 500 سنة. بعد نهاية الحكم العثماني، عانت من الحروب البلقانية والحرب العالمية الأولى.

- **حياة الشيخ رستم شبورتا:** وُلد في بريزرن، تعلم في مدارسها، وعُيّن مفتياً في 1917. عانى المسلمون خلال الحكم البلغاري، واعتقل في 1924 بتهمة التحريض على قتل مهندس صربي.

- **إسهامات رستم شبورتا الثقافية:** ألف مخطوطات بالعربية حول الصبر خلال سجنه، منها "رسالة في الصبر". أطلق سراحه في 1935، وتوفي في 1937.

قبل مئة سنة بالتمام، اعتقل مفتي مدينة بريزرن Prizren، التي أصبحت في 1869 مركزاً لولاية عثمانية جديدة حملت اسم قوصوه (كوسوفو) لاحقاً، الشيخ رستم شبورتا Rr. Shporta  الذي كان من الجيل المخضرم الذي عايش حروب المنطقة وانتقال الحكم من دولة إلى أُخرى، والذي مثّل الثقافة الشرقية السائدة في زمنه لكي يتسلّمها بعد وفاته في 1937 الجيل الجديد (جيل حسن كلشي) الذي انتقلت معه هذه الثقافة من المدرسة التقليدية إلى الجامعة مع تأسيس قسم الدراسات الشرقية في 1973.

كانت بريزرن مدينة عريقة من القرون الوسطى دخلت ضمن توسّع وتقلّص الإمبراطوريات (بلغارية وصربية وعثمانية) عدة مرات حتى استقرت حوالي 500 سنة تحت الحكم العثماني لتتحول إلى "مركز الثقافة الشرقية" كما سمّاها د. كلشي في دراسة له، وهي لا تزال حتى الآن أكثر مدينة محافظة على بنيتها العثمانية. ولكن بريزرن عانت كثيراً من الحروب وتعاقُب أنظمة الحكم المختلفة بعد نهاية الحكم العثماني، وبالتحديد خلال الحروب البلقانية 1912 - 1913 والحرب العالمية الأولى 1914-1918. فقد احتلتها بلغاريا باعتبارها جزءاً من إمبراطوريتها القروسطية وكذلك فعلت صربيا باعتبارها العاصمة الصيفية للإمبراطور دوشان 1348-1355 وتصرّفت كلتاهما لاستعادة الماضي دون أي اعتبار لما تغيّر على مدى 500 سنة من الحكم العثماني.

ومن هنا فقد كان الكتاب الذي أصدره الزميلان المعنيان بالثقافة الشرقية رسول رجبي وصادق محمدي بعنوان "الحاج رستم شبورتا: حياته وآثاره (1864-1937) لا يضيء فقط لأول مرة على هذه الشخصية المركزية التي تمثل الثقافة الشرقية المتراكمة في المدينة/ الولاية على مدى عدة عقود، بل يتناول هذه الشخصية ضمن السياق التاريخي للمدينة خلال فترات الانتقال ما بعد العثماني. فعلى نمط ما ارتكبته إسبانيا في الأندلس بعد 1492 كانت روح "الاستعادة" تحرّك السلطات الصربية والبلغارية خلال حكمها للمدينة خلال 1912-1918.

من المخطوطات التي ألّفها بالعربية في السجن رسالتان عن الصبر

وبالاستناد إلى تقرير للقنصل النمساوي في المدينة خلال الحكم الصربي في 1914، يورد المؤرخ البريطاني نويل مالكوم في كتابه "كوسوفو تاريخ مختصر" أنه "من أصل 32 جامعاً في المدينة تم تحويل 30 منها إلى ثكنات عسكرية واصطبلات ومخازن للذخيرة"، بينما ساء الوضع أكثر خلال الحكم البلغاري للمدينة (1916-1918)، وهي الفترة التي عُيّن فيها رستم شبورتا مفتياً على المدينة.

الحج كوسيلة للتزوّد بالمؤلّفات الشرقية

وُلد رستم شبورتا في شارع كان يسمّى باسم العائلة "شارع آل شبورتا" بسبب خان أو فندق بناه جده، وهو ما سمح للعائلة بأن تعتني به. فبعد أن التحق بالكتّاب وتعلم أساسيات العلوم الدينية تابع دراسته في إحدى أشهر المدارس في بريزرن (مدرسة محمد باشا) التي تعلّم فيها علوم الدين واللغة العربية التي أجادها. وفي السنة التي تخرج بها من هذه المدرسة (1896) ذهب إلى الحج، وهي الرحلة التي كانت تستغرق حوالي سنة في الذهاب والإياب، ولكنه استفاد منها للتزود بأُمهات الكتب في الفقه واللغة العربية، التي لا تزال محفوظة وتبيّن مصادر ثقافته الفقهية وإجادته للغة العربية. وقد عُيّن بعد عودته مدرساً للغة العربية في المدرسة التي تخرّج منها، وهو الذي جعله يتمكّن من التأليف في اللغة العربية كأحد الناطقين بها، إلى أن عيّن مفتياً للمدينة في 1917.

رستم شبورتا، 1937
رستم شبورتا، 1937

كانت فترة الحكم البلغاري (1916-1918) من أصعب الفترات التي بقيت قي الذاكرة الجمعية باعتبارها ارتبطت بالمجاعة وإساءة استخدام المنشآت الدينية للمسلمين (الجوامع وغيرها). وفي نهاية 1918، دخلت القوات الفرنسية- الصربية بريزرن لتصبح كوسوفو جزءاً من الدولة الجديدة (مملكة يوغسلافيا) التي أعلنت في 1 كانون الأول/ديسمبر 1918. ومع أن الدولة الجديدة أُجبرت في معاهدة سان جرمان 1919 على احترام حقوق الأقليات القومية والدينية، إلا أن الوضع على الأرض كان مختلفا خاصة للمسلمين.

فمع روح "استعادة الماضي" التي ميّزت الحكم الجديد قامت السلطة الجديدة بحجّة "التطوير العمراني" بهدم بعض المنشآت التاريخية التي بنيت خلال الحكم العثماني، ولكنها مسّت مشاعر الأغلبية المسلمة حين بدأت في 1922 بهدم جامع سنان باشا (بُني في عام 1615) الذي كان يُعتبر "جوهرة المدينة" بحجة أنه بُني من أحجار دير صربي في ضواحي المدينة، وهو الأمر الذي أثبت عدم صحته علمياً د. حسن كلشي في دراسة له باللغة الصربية. ولكن احتجاج السكّان الذي وصل إلى ذروته في 1924 بعد هدم القسم الخارجي وأدى إلى مقتل المهندس الصربي الذي كان يشرف على هدم الجامع، دفع السلطات إلى اعتقال المفتي رستم شبورتا والحكم عليه في 25 تموز/يوليو 1924 بالسجن لمدة عشرين سنة بتهمة التحريض على قتل المهندس المذكور، وهو ما نفاه المفتي رستم باعتباره "فرية" عليه.

الصبر والتأليف في العربية كوسيلة للنجاة

في هذا الكتاب القيّم عن المفتي رستم شبورتا استعرض المؤلفان المخطوطات التي وجداها بخط المؤلف، بالإضافة إلى المخطوطات العربية والعثمانية والفارسية التي كانت ضمن مكتبته الشخصية التي تعكس ثقافته الواسعة. وما يهمنا هنا مخطوطاته في اللغة العربية التي ألفها خلال سجنه، التي قضاها في أربعة سجون (سجن بريزرن في كوسوفو وسجن سكوبيه في مقدونيا وسجن نيش في صربيا وسجن زنيتسا في البوسنة) إلى أن أطلق سراحه في منتصف آذار/ مارس 1935 ليعود مرهقاً إلى مدينته ليتوفى فيها في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 1937 وسط التقدير الذي حظي به من تلاميذه ومحبّيه.

حرّكت روح "الاستعادة" صربيا وبلغاريا في حكمهما للمدينة

من هذه المخطوطات التي ألّفها بالعربية خلال سجنه لدينا مخطوطتان اختار لهما موضوعاً مناسباً: الصبر. أما المخطوطة الأولى فكانت بعنوان "رسالة في الصبر" كتبها في سجن بريزرن الذي قضى فيه 1368 يوماً وأكملها في 17 شعبان 1343هـ/ آذار/مارس 1925، في حين أن المخطوطة الثانية "شرح موجز للرسالة في الصبر" ألّفها في سجن زنيتسا Zenica بالبوسنة الذي قضى فيه معظم سنوات سجنه وأكملها في 25 شوال 1315 هـ/ 3 شباط/فبراير 1933.

وفي مقدمة هذه الرسالة ينطلق المؤلف من التسليم بمشيئة الله باعتباره "مالك الملك يتصرف في ملكه وفي خلقه كما يشاء ولكنه بجميع شؤناته (كذا) منعمٌ لهم بتقرّبهم إليه بالشكر والصبر والرضا... تارة بالسرّاء أي بإلقاء السرور لهم في دينهم ودنياهم، وتارة بالضرّاء أي بإصابة الضرر والبلاء في أنفسهم وأولادهم وأبويهم وإخوانهم وأقربائهم وأصدقائهم المؤمنين وأحوالهم ليكونوا شاكرين في السرّاء وصابرين عند البلاء فيفوزوا بهذين الوصفين المشمولين عند الله فوزا عظيما". ويستذكر المؤلف هنا الصبر الذي أبداه الرسول محمد "الذي ما أوذي نبيّ مثله ... حتى ألجأوه إلى الهجرة فصبر وشكر على الضرّاء والسرّاء إذ قال تعالى قولا له: فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل".

الصفحة الأولى من شرح مرجز لـ"رسالة في الصبر" لمفتي بريزرن
الصفحة الأولى من شرح مرجز لـ"رسالة في الصبر" لمفتي بريزرن

ومع هذا الابتلاء يعظّم المؤلف قيمة الصبر الذي خصّص له رسالته الموجزة الأولى في سجن بريزرن، ثم شرح رسالته هذه في سجن زنيتسا بالبوسنة حتى تمكّن من الحفاظ على نفسه والخروج من السجن والوصول إلى بيته سالماً في بريزرن في 1935، وهو ما يذكرنا هنا بالمفكر علي عزت بيغوفيتش الذي عرف كيف ينجو بنفسه من سنوات السجن (1983-1988) في فوتشا Foča بالبوسنة منشغلاً بالقراءة والكتابة التي توَّجها بكتابه "الهروب إلى الحرية" الذي شهره في العالم.

وتجدر الإشارة إلى أن المفتي رستم شبورتا كان قد اتخذ لنفسه محبساً شعرياً (ذهني)، ولذلك كان يذكر في نهاية مؤلفاته اسمه بالصيغة العربية: عبده الضعيف المعترف بالتقصير رستم ذهني برزريني.

* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون