قليلةٌ هي الأنشطة العلمية حول القصّة وأجناسها الفرعية في العالم العربي. تعكس هذه القلةّ، في آنٍ، ميلَ الكتّاب لأجناس أخرى أبرزها الرواية، ونظرة غير مكترثة بهذا الشكل الإبداعي من زاوية الباحثين.
لعلّنا نشهد بالتدريج تغيّراً في هذه المعطيات، ومن ذلك تخصيص ندوة بحثية لمناقشة قضايا القصّة دون غيرها من أشكال الكتابة، نظّمتها يوم السبت الماضي "جمعية ألق"، تحت عنوان "من القصّة القصيرة إلى القصّة القصيرة جدّاً: مسارات التأسيس وتحوّلات التجريب"، واحتضنتها "المكتبة المعلوماتية" في مدينة أريانة بالقرب من تونس العاصمة.
ضمن الندوة، قدّم الكاتب والباحث التونسي رضا بن صالح، ورقة بعنوان "إنشائية القصّة القصيرة جدّاً"، تضمّت إضاءة نظرية على قضايا الأدب الموجَز، وقراءة تطبيقية أجراها على مجموعة "قبّعة غريغوري" للكاتب المغربي عبد الله المتّقي.
يكشف "التقلقل المصطلحي" عن سوء فهم عربي للقصّة القصيرة جدّاً
يقول بن صالح في مفتتح كلمته: "يقتضي تدبّر إنشائية القصّة القصيرة جدّاً من الباحث أن يكون واعياً بالمدى الذي تتنزّل فيه النصوص. مدىً تتقاطع فيه نظرية الأشكال الوجيزة بمقوّمات الكتابة التجريبية. هذا التقاطع الذي يبدو غائباً أو غائماً لدى الكثيرين هو الذي يبرّر تلك الأسئلة الكثيرة المطروحة على القصّة القصيرة جدّاً في مستوى التجنيس والتعريف، فتظهر لها أسماء كثيرة مثل 'القصّة اللقطة' و'القصّة الومضة' و'القصّة الكبسولة' و'اللوحة القصصية' و'المغامرة القصصية' و'الصورة القصصية'..."، وهو ما يسمّيه بـ"التقلقل المصطلحي".
يلاحظ بن صالح "عدم إلمامٍ بمقوّمات الوجازة في قراءة القصّة القصيرة جدّاً في الثقافة العربية"، إذ يضيء على خطأ يتعلّق بكون القرّاء، ومنهم النقّاد والباحثون "يكتفون في الغالب بالمحدودية الكمّية للنصّ معياراً للوجازة ودليلاً عليها، والحال أنّ طول النصّ أو قِصره لا يحدّدان الانتماء إلى الأدب الوجيز. هذا الأدب الذي يضمّ أجناساً وفنوناً مختلفة، ففيه قديماً النوادر والمقامات والأخبار والأحاديث والأمثلة السائرة والألغاز والمقابسات، وفيه حديثاً الأقصوصة والقصّة القصيرة جداً والفيلم القصير ومسرح الإيماء والكاريكاتير. ونعتقد أنّ هذه الألوان من الإبداع تستدعي بلاغة مختلفة هي بلاغة القلّة، على نقيض بلاغة الوفرة، على حدّ عبارة الباحثة التونسية نور الهدى باديس"، مشيراً إلى اعتماده لمفهوم البلاغة في غير مدلوله الضيّق بل باعتباره جملة الشروط المتحكّمة في عملية إنتاج جماليات الخطاب.
ومن خلال قراءته في مجموعة "قبّعة غريغري" يُبرز بن صالح حضور منظورات فنون كثيرة في بنى القصص القصيرة جدّاً الواردة، فيبرز حضور الفنّ الرابع من خلال بعض أطروحات المسرح الملحميّ الذي نظّر له برتولد بريشت، خصوصاً في نقطةِ ضرورةِ القطع مع محاولة اندماج الجمهور بالعرض؛ كما تحضر الفنون التشكيلية في المجموعة من خلال ثلاث مستويات هي، بحسب عبارات بن صالح: "تجلّيات الرسم عبر الملفوظات"، و"تجلّيات الرسم عبر السمات الغرافية"، و"تجلّيات الرسم في المتن السردي"، لكنّ أهم حضور يرصده بن صالح هو الأثر السينمائي داخل نصوص عبد الله المتقي.