رفعت علي أبو الحاج.. التاريخ العثماني في إطاره المُقارَن

04 يونيو 2024
ينقُض الاعتقاد بأنّ التشكيل الاجتماعي وبنية السُّلطة العثمانية كانا جامدَين
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الاستشراق التقليدي عالج التاريخ والجغرافيا العثمانية كمجالات منعزلة، مما أدى لتصورات محدودة عن الإمبراطورية العثمانية وأسهم في جعل الدراسات العثمانية حقلًا باطنيًا في الغرب.
- رفعت علي أبو الحاج يُعيد تقييم التاريخ العثماني، مُظهرًا الإمبراطورية كمجتمع حيوي ومتغير، ويُشير إلى التشابهات مع أوروبا في القرن السابع عشر، مُركزًا على الثورات والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية.
- يُقدم نقدًا للاستشراق والدراسات العثمانية الحديثة، مُعتبرًا أنها قدمت صورة مُشوهة للمجتمع العثماني، ويُشدد على أهمية فهم التاريخ العثماني ضمن سياقه العالمي، مُقدمًا رؤية نقدية ومُعمقة.

لطالما خَصَّص الاستشراق التقليدي التواريخَ والجغرافيّات الواقعة خارج المركز الأوروبي، ووضعَها في حيّزٍ مُنعَزِل غير مُطابق أو مُستوفٍ شروطَ المُقارَنة، فمفاهيم مثل نُشوء وتطوُّر الدولة وآليّات الحُكم، وحتى تاريخ الطبقات وثورات الفلّاحين، كلّها كانت محصورة في مركز/ مثال، وقلّما جرى الحديث عنها كما هي في سياق يشملها ويشمل غيرها على حدّ سواء. وهذا التخصيص هو ما طبَّقه المؤرّخون العثمانيون (الذين يشتغلون بالتاريخ العثماني بِغضّ النظر عن جنسيّتهم)، في معظم الأكاديميّات الغربية، على مادّتهم المدروسة، ليتحوّل هذا المجال إلى "حقل باطني سرّي". لكن "إذا كان التاريخ عِلماً، فلِمَ لا نُعالج التاريخ العثماني ونُحلِّله وفقاً لمعايير تتناسق مع تلك التي تطوّرت في دراسة تاريخ مناطق أُخرى، وهذا النهج يُيسّر إدراج التاريخ العثماني في إطار التاريخ المُقارَن، ما يُفسح في المجال للتواصل بين التقسيمات الإثنية والقومية والحضارية".

من هذا الفهم، أي ربط التاريخ العثماني بتاريخ العالَم، انطلق المؤرّخ الفلسطيني الراحل رفعت علي أبو الحاج (1933 - 2022) في كتابه "تشكُّل الدولة الحديثة: الإمبراطورية العثمانية من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر" ("منشورات جامعة سيراكيوز"، 1991)، والصادر بطبعة عربية حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بتوقيع الباحث والمترجم محمود الحرثاني، ومراجعة يوسف معوّض.

لم يكُن المجتمع العثماني جامداً بل اتصف بالحيوية والتغيُّر

يقع الكتاب في مئتي صفحة، لا ينفكّ مؤلّفها عن تدوين الملاحظات في أثر الدراسات العُثمانية. ويبدأ بالمؤرّخ البريطاني بيري أندرسون وكتابه "سُلالات الدولة المُطلقة" (1974)، الذي قدّم نموذجاً تقدّمياً بديلاً (نظام الإنتاج الآسيوي)، ولكنّه وفقاً لأبو الحاج، قلّل من شأن التاريخ العثماني حين زعم أنّ هذا التاريخ متناقض مع "وحدوية تواريخ القارّة" (الأوروبية)، فضلاً عن اختزاله الدولة والتاريخ العثمانيَّين بـ"جَعْلهما مسرحاً خلفيّاً تكشّفت في ضوئه دراما التاريخ العالمي". وفي سياق نقده هذه الأطروحة، يُشدّد أبو الحاج على ضرورة ملاحظة ملامح التجانُس بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا في القرن السابع عشر، من خلال إمكان حدوث ثورة اقتصادية واجتماعية، والعناية بالطابع المُتغيّر للدولة.

كذلك، يقرأ أبو الحاج "التمرُّدات الدائمة" في القرن السابع عشر، سواء في "الروملي" (الأراضي الأوروبية الخاضعة للسلطنة) أو برّ الأناضول، أو في جبل لبنان، وتنامي قوّة الأشراف في الحجاز. ويعرض لمدرستين من المؤرّخين العثمانيِّين فسّرتا هذه الظاهرة، الأولى ويمثّلها خليل إنالجيك (1916 - 2016) الذي عزاها إلى تدفُّق الفضّة من العالَم الجديد، والثانية كما عند هوري جيهان إسلام أوغلو وجاغلار كيدر، حيث يعزوانها إلى التعديلات التي رافقت مُلكية الأرض، خصوصاً "الميري" (مُلك الدولة العامّ). وقد رأى هذا التيار أنّ تعديل أنماط حيازة الأراضي كان نتاج سطوة السوق العالمية على الموارد العثمانية المحلّية. وهُنا يضع صاحب "انتفاضة 1703 وبنية السياسة العثمانية" (1984) اليد على مفاتيح اقتصادية يُحلّل من خلالها نظام الضرائب وهجرة الفلّاحين وتحوُّلهم إلى حِرَفيِّي مُدن، وما فرضه ذلك من تغيُّر عميق في التكوينات الاجتماعية، أبرزها في طبقتي الجيش والعُلماء.

رفعت علي أبو الحاج - القسم الثقافي
رفعت علي أبو الحاج (1933 - 2022)

تالياً، يتوقّف أبو الحاج عند انعكاس هذه التغيّرات العميقة التي لم يُقرّ بها مؤرّخو القرن العشرين العثمانيون، كما يُنبّه، ويلفت إلى بدء استقلالية الدولة عن الطبقة الحاكمة، وفيما إذا كان هذا مشروطاً بظهور الرأسمالية الصاعدة كما في أوروبا من عدمه. لكنْ قبل ذلك، يُميّز مصطلح الدولة العثماني "دولت" (Devlet) عن نظيره "الدولة - الأمّة"، ويستعير من أندرياس تيتسه تحديده للـ"دولت" بما هي "سلطة اتّخاذ القرار التي يتمتّع بها رأس الدولة الشرعي، كما يتمتّع بها أُولئك الذين فوّضوا هذه السلطة". 

وضمن هذا السياق، يَنظُر المؤرّخ الفلسطيني إلى مُؤرّخي القرن العشرين على أنّهم "ضحايا مصادرهم"، إذ اعتمدوا كُتب "نُصح الأمراء" (نصيحت نامه)، التي قدّموا من خلالها صورة جامدة للمجتمع العثماني، ففضلاً عن أنّ هذا النوع من الكتابات هو "منشورات متحيّزة وسياسية"، فقد أُسيء استخدامها أيضاً "إذ باتت ملاحظات مصطفى علي في أواخر القرن السادس عشر، أو قوجي بك في القرن السابع عشر، محلّ تسليم من دون مزيد من التحقيق، ومن ثم اتُّخذت دليلاً على تراجُع الإمبراطورية العثمانية".

قراءة طبقيّة أفادت صاحبها بتقديم رؤية نقدية للاستشراق

ويتابع أبو الحاج نقدَه الدراسات الحديثة مُعتبراً أنها "ضلّلت القارئ، ودفعته إلى الاعتقاد أن كُتب النُّصح ليست سوى خطوط إرشاديّة لتوجيه سياسات الأمير القائم... وأنّ مؤلّفيها قصدوا منها صَوغ بنية يقوم عليها الإصلاح، تُشبه في جزء مُعتبر منها الخُطط الاقتصادية الخمسية الحديثة". وعلى العكس من ذلك، يُحدّد المؤرّخ ثلاثة من أصحاب كُتب النُّصح، وهُم: مصطفى علي ((1541 - 1600) وقوجي بك وشهاب الدين الخفاجي (1569 - 1659)، باعتبارهم ساخطِين على النظام القائم مُتمنّين عودة الأمراء ذوي القيادة الكاريزمية، مُنتقدِين تفويض السلطة الوكلاء والندماء. وبالرغم من أنّ التأمّل في "رسالة" (1632) قوجي بك يُعطي انطباعاً بأننا أمام "حُلم بيروقراطي حديث ومُبكّر يتحقّق: فكلّ شيء في مكانه المُحدّد، وبمجرّد اعتماده يُصبح نظاماً نشطاً يُقارب الكمال"، لكنّ هذا "الانسجام"، وفقاً لأبو الحاج، لم يتحقّق، فـ"الصراع الاجتماعي بين الطبقة الحاكمة والفلّاحين، كما الصراع السياسي بين أفراد الطبقة الحاكمة، من الأمور التي لا مفرّ من الاعتراف بها".

الأسطول العثماني - القسم الثقافي
الأسطول العثماني راسياً في أحد الموانئ الفرنسية، مُنمنمة لـ نصوح مطرقجي من كتاب "سليمان نامه"، القرن 16 (Getty)

ومن أشدّ التغيّرات الاجتماعية التي استرعت انتباه أبو الحاج في "رسالة" قوجي بك هي التفات كاتبها إلى انهيار النظام الاجتماعي للطبقات، الذي تعدّى الجيش ليشمل طبقة العُلماء والنخبة الحاكمة، وخاصة في الفترة بين القرنين السابع عشر والثامن عشر "كان ما يُناهز نصف المُلتحقين الجُدد بطبقة علماء إسطنبول العُليا ينتسبون إلى عالَم التجارة أو يتحدّرون من خلفيات حِرفيّة. وقد تساوت أعدادُهم بأعداد أولئك الذين ينتمون إلى عائلات عِلمية مرموقة... كذلك الرعايا ما عادوا مُقيَّدين بما حُدّد لهم من مساحات في الاقتصاد والمجتمع". وكلّ هذه التقلّبات، أو بالأحرى تمظهُراتها الاجتماعية، لم تكُن مُستساغة عند مؤلّفي كتب النُّصح، الذين رأى أبو الحاج فيهم "أنهم من أنصار العودة إلى الزمن الذي كان فيه نظام السباهي (الجُند الفرسان) الأرستقراطي مُسيطراً". (لصورة أوسع عن طبقة العُلماء خارج أو على حدود إسطنبول، تُمكِن العودة إلى كتاب الباحث السوري حسّان القالش "سياسة عُلماء دمشق"، صدر مطلع العام الجاري عن "المركز العربي"، وهو من آخر الدراسات العثمانية التي تُقدّم عرضاً رصيناً حول خلفيّات تطوُّر هذه الطبقة اجتماعيّاً وسياسيّاً على مدار أربعة قرون من 1516 إلى 1916).

وفي مقابل هذا النوع من الكتابات "الناصحة"، راح يظهر في فترة لاحقة نوعٌ جديد أكثر مدينية ويُمثّله، حسب الكتاب، مصطفى نعيمة (1655 - 1716) الذي وضع كُرّاساً بعنوان "تاريخ". وفيه لا يُخصّص أيّ مساحة لمناقشة "الدولت"، بل يُركّز على المجتمع والتعريف بمستوياته أو طبقاته وتركيبها، وهو يُبرّر التغيير من منطلق "الفكر المُحافظ"، حيث يعزله عن أيّ دور بشري، الأمر الذي يُذكّرنا بمسار شبه بيولوجي يُحرّك المجتمعات وينطلق من الولادة، فالنُّضج، ثم الوهن والموت. وهنا تحضر "مقدّمة" ابن خلدون التي كانت إحدى مصادر نعيمة في "تاريخه"، وفقاً لأبو الحاج. 

ولتمثيل هذا التفصيل بالذات، يُحيل المؤرّخ إلى كتابه آنف الذكر "انتفاضة 1703 وبنية السياسة العثمانية"، حيث اكتملت رسالة نعيمة في مطلع القرن الثامن عشر، أي في الفترة التي شكّلت مُنعطفاً حاسماً بعملية التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المجتمع العثماني، غدا معها "نموذج القيادة الكاريزمية فارغ المضمون أيضاً، وحلّ محلّه نموذج في القيادة الجماعية القائمة على أولغارشية مدَنية". ولو "قارنّا" هذه الحال مع أوروبا، كما يُتابع أبو الحاج، فسنجد أنّ أوروبا كانت تعيش فترة مَلكيّات مُطلقة، مُرسَّخة بأيديدولوجيا الحقّ الإلهي، بمعنى آخر، "كان عصر الأعيان العثماني قد بدأ للتوّ، في الوقت الذي كان نظراؤهم الأوروبيّون يعيشون انحساراً لصالح تدعيم المركزية".

يتحرّك المؤرّخ رفعت علي أبو الحاج، في مُجمل كتابه، وفق رؤية ناظمة تتمثّل في إعادة التشديد على حقيقة بدَهية رفضتها الكتابات الأكاديمية الغربية، وهي "أنّ المجتمع العُثماني مثله كمثل جميع المجتمعات البشرية عبر التاريخ، اتّصف بالسيولة والدينامية، وقد احتفظ بهذه الصفات طوال تاريخه... وعلى الرغم من تغيُّر بنية المجتمع فإنّ، واجهته الخارجية ظلّت على ما هي... هكذا يُعطي التركيز على المظهر الخارجي إحساساً زائفاً بالديمومة، ويُرسّخ الاعتقاد أنّ التشكيل الاجتماعي وبنية السُّلطة كانا جامدَين".
 

المساهمون