إذا كان للصحافة من علاقة وطيدة، عبر تاريخها، بأحد حقول الإبداع البشري، فإن عاقلَين لا يختلفان على تحديد هوية هذا الحقل: الأدب. أمرٌ يخصّ الصحافة المكتوبة، بالطبع، أكثر من غيرها من حقول العمل الصحافي، لأسباب تتجاوز فعل الكتابة نفسه والحاجة إلى استخدام اليد والقلم، أو الريشة.
فالفلاسفة والأساتذة والمؤرّخون لطالما استخدموا أيضاً الريشة والقلم للتأليف، لكنّ العمل الصحافي لم يقترن بهم تاريخياً، بل اقترن بأسماء شعراء وكتّاب وروائيين وجدوا في هذه المهنة الوسيلة الأنجع ــ وربما الوحيدة ــ للجمع بين أمرين: شغفهم بالتأليف والشعر والسرد وإعلام الآخرين بأمور قد لا يعرفونها، وحاجتهم في الآن نفسه إلى كسب عيشهم.
في مدينة مونبلييه الفرنسية (جنوب)، تنعقد يوم غدٍ الخميس الدورة الأولى من مهرجان "ريش الصحافة"، الذي يدور حول ثيمة أساسية هي "الصحافة والأدب في الفترة المعاصرة"، وتستضيفه، بين الحادية عشرة والنصف صباحاً والثامنة مساءً، "جامعة بول فاليري مونبلييه 3" في المدينة.
ينطلق المهرجان من ظاهرةٍ تشهدها فرنسا منذ نحو عقدٍ من الزمن: ارتفاع عدد الأعمال التي ينشرها صحافيون-كتّاب أو كتّاب-صحافيون، وفوز بعضها بجوائز أدبية وكِتابية، إلى جانب تصدّر بعضها قوائم الأفضل مبيعاً، مثل "حفّارو القبور" (2022) للصحافي فيكتور كاستانيه، الذي نشر في هذا الكتاب تحقيقاً مطوّلاً ومدعوماً بالوثائق حول أحوال المقيمين في دُور المسنّين واحتيال بعض الشركات في هذا المجال.
يشمل برنامج المهرجان مجموعةً من اللقاءات والجلسات والمحاضرات، منها محاضرة لـ سيريل غي، مؤسّس ومدير "منشورات مارشيالي" التي تنشر، منذ تأسيسها قبل نحو عقد، أعمالاً تُشبه التقارير المطوّلة، في جمعها بين السرديّ والإعلاميّ والحميميّ، ضمن ما يُعرَف في حقل الأنواع الأدبية بـ"الأعمال غير التخييلية".
كما تتحدّث الكاتبة تاينا تيرفونن، التي نشرت أكثر من عمل ضمن هذا النوع الكتابي، مثل عملها "المخطوفون: سردية مضادّة حول غنيمة كولونيالية" (2021) الذي تقدّم فيها تحقيقاً تفصيلياً حول سرقات فرنسا لآثار البلدان التي احتلّتها، ووجودها اليوم بشكل طبيعي ومحمي قانونياً في أغلب متاحف البلاد.
كما تُقام، عند السادسة مساءً، جلسةٌ بعنوان "دفاعاً عن أحداث متفرّقة من نوع آخر"، يشارك فيها كلٌّ من ميشيل مواتي وإليز كوستا وإرفيه شوبان، وهم جميعاً أصحاب كُتب حول أحداث إشكالية أو إجرامية أو غامضة من تلك التي تتملئ بها بعض الصحف والمواقع. وكما يوضح عنوان الجلسة، فإن المشاركين يقترحون على غيرهم من المهتمّين بهذا الحقل الكتابي أن يُدخلوا تغييرات تحسينية على "مِهنتهم"، كأن يُبدوا اهتماماً بأكبر بأحوال الضحايا وأهاليهم، وأن يقوموا بأبحاث وتحقيقات أكثر عُمقاً، أو مُخالفة للسردية السائدة حول الحادث والتي قد تكون مخطئة، إضافة إلى دعوتهم لكتابة أوراق أطول حول قضايا خطيرة كهذه وعدم الاكتفاء بمقالات قصيرة لا يمكن أن تستوعب التعقيدات الموجودة في حوادث كهذه.