نزل زكريا محمد عن "جبل التجربة"، وهبط إلى قبره هُبوط من راكمَ موتَهُ ليكملَ حياته. كان مطابقاً لمواقفهِ وطباعهِ ورشقاتِ ضميره. وكان ظاهراً متخفّياً، وتحريضيّاً على الأمل، من بطن اليأس، يتقدّم مُظاهرة. رأسه الأشيب خيوط بيضاء نسّاجة، وعلامة شكلانيّة دالّة لعبوره في نواحي المدينة.
في كل صباح يختار طقساً وحيداً واعتزاليّاً وخلّاقاً وغنيّاً إذ حوّل صفحته الشخصية في فيسبوك إلى مختبر تفاعليّ مع القرّاء، ومنصّة فاعلة أحبّ تجريدها من سلطة الناشر، ومصير اللحظة في أيدي الآخرين. أراد الإمساك بزمنه الخاصّ، متصالحاً مع فكرة الافتراض في الوسائل الجديدة، والحواجز النافعة، ومبشّراً بصلاحيّتها للعمل والتواصل والاستخدام الثقافي. فالتأليف راهنٌ ولحظيّ، ومراكمة الكتابة تفرض التزامها بالمِراس والنشر اليومي. خلقَ قرّاءه ثمّ عوّدهم على طقسهِ ومزاجهِ حتى صار له مريدون أيضاً، في محاكاة جزئية لكبار المهرة وشيوخ الطريقة. لكنه كما قال في إحدى قصائده: "أنا والخريف شيخان بطّالان".
وصاحب "عصا الراعي" من البحّاثة لا الباحثين. أعني هو من صاغةِ العمق، ومحترفي التجذير، لا من بائعي المطالعات ونادلي الاقتباس على موائد المثاقفة الناقصة من روح صاحبها. ميزانه يستقيم في المناطق الفكرية الخاصّة ذات الشاعرية الموازية. والتذهّن في إنتاجه حَنون ونسيميٌّ وقابل للتفكيك، لا صارمٌ ومتصلّبٌ وحاسم.
قال مرّة: "سعيت، بوعي ومن دون وعي، إلى أن أجعل النثر يغنّي". وهذه الجملة تتويج لنجاحه في أن يكون سيّد الشكل الشِّعري الجديد في السنوات العشر الأخيرة. وغناء النثر أسمّيه موسيقى المفردة والوعي والتماثل في التنظير لشكل قصيدة النثر الجديدة. ولعلّ هذه الثلاثية تَسِمُ إلى حد كبير ثلاثية زكريا محمد ("كشتبان"، و"علندى"، و"زراوند") التي شكّلت قطيعة ما عن مجموعاته السابقة مثل: "أحجار البهت" و "ضربة شمس"؛ حيث جاءت الجمل الطويلة والبناء الأفقي لمعاكسة الصيغ الجمالية التي تعتمد على الحذف العمودي، والاستعارة المختزلة، والقفلات التي تشتغل على التدوير بقصد الربط بين المطلع والخاتمة.
ولا عناوين لقصائد المجموعات الثلاث. لا مدخل، ولا عتبة. المدخل والباب والعتبة هي: البيت كلّه. والبناء متدامج الأفكار، لا مكان للأعمدة البارزة فيه. يتصاعد بالتأمل والغناء الخفيض، ويتنامى عبر لغة جديدة تسطع في معمارها، وعلى سطوحها مفردات تعاين ذاتها. كأنها تنجز تأثيثاً للموروث، لا تأسيساً عليه.
عشر سنوات من الميثولوجيا المركّزة، أيضًا، كانت كافية لتجعل من "ديك المنارة" لسانَ المطلق، وكانزَ الطلاقة العذبة وجودياً- أسطوريّاً في سياقات لغة طازجة وصادمة أحيانًا، ويوميّة غير هامشيّة، بل جوهريّة في مفاتيحها.
"حفرت قبوراً لأحبّة كثيرين. ومرّة هبطت عند الغروب من مقبرة السّفح، وقميصي مُلطّخ بِطِين الدّفن، فصادفني حقل من يراعات تشعل نورها وتُطفئه. ولم أفهم معنى هذا؛ أهي أرواح أحبتي تستغيث بي، أم أنّ روحي تُشعل شموعها حزناً عليهم؟ المرء لا يدري معنى الإشارات بيقين. يتكهّن تكهُّناً. فهي تُعاكس بعضها بعضاً، وتغمز بأعينها مُضلّلة متآمرة. لكنْ كأنني فهمت أن طريق الموت مضاء بقناديل على الجانبين. فقد كانت اليراعات تسنح لي عن شمالي، وتبرح عن يميني، وأنا أعبر بينها في ممرٍّ من نُور متقطّع كأنّني أسير في جنازتي". ("كشتبان"، 12 آب/ أغسطس 2013).
* شاعر من فلسطين