هل من سببٍ مقنع لكتابة الشعر في أوقاتنا هذه؟ درجت العادة أنّ المُقنِع هو ما له صدىً مادّيٌ ملموس، وروابط مفهومة على أرض الواقع. أمّا الشعر، رفيق الهواء، ذاك الذي لا يحطّ على أرضٍ صلبة، فما الغرض منه؟ هذان السؤالان يشكّلان الجوهر الذي يمثل كينونة الإنسان حين يفكّر في الشعر، وهما سؤالا العقل والقلب في الأساس. العقل في حال وصلَ إلى أنّه عقل، أي منبع فكر علمي منطقيّ بالدرجة الأولى، لا يرى في الشعر سوى وهمٍ يتسرّبُ من مكانٍ آخر. أمّا القلب، وهو ساحة الروح، ففضاءُ شعورٍ ومدّ وجزر، معنوي ومادي. أمّا اللغة، وهي الوسيط بين هذين المنبعين، فمحراثٌ في يد حارث، أي مَلَكة توجّهها يد الفاعل تجاه ما تريد من غثٍّ أو سمين.
السؤال هنا: هل ثمّة حياةٌ من دون عقل أو قلب؟ كلاهما رافدٌ أساسي في البناء الإنساني، ولن نخطئ لو قلنا "الحيواني" أيضاً. لكنّ هِبة اللغة، بتعقيداتها ومنتوجها اللامتناهي، هي للإنسان دون غيره.
ولربّما نسأل أكثر: هل نستطيع تخيّل العالم من دون الشعر، سفيرِ القلب الأمثل على مدى كل العصور؟ وهل نستطيع رؤية العالم من دون العقل، منبعِ الفكر والعِلم واللغة، أيضاً على مدى العصور؟ الجواب قطعاً: لا. الشعرُ هو ما يُلازم القلب شغفاً، كما اللغة تُلازم العقل عادةً وفكراً. وإن كان الشعرُ لغةً، وهو كذلك، فإنّ منبعه غير العقل بالمعنى الآنيّ للكلمة: منبعه القلب. وليست هذه نظرة رومانسية للشعر بقدر ما هي خواطرُ عن روافد اللغة في جسد الإنسان.
هل يتوقّف الشعر على وصفه تعبيراً عن كينونة الإنسان؟ في العالم الذي نعيش فيه اندثرت أشياءُ كثيرة. تغيّرت آلاتٌ ومعتقدات كان يؤمنُ بها أهلها إيماناً راسخاً، واندثرت أيضاً لغاتٌ كانت يوماً نابضةً ورمزَ قوّة وهيبة، كاللاتينية التي كتب بها فيرجيل قصائده، والآرامية التي تحدّث بها المسيح. كلُّها اندثرت، إلّا في جيوب صغيرة. إذن، ذهبت أشياءُ كثيرة، وحلّت محلّها أشياء أخرى. الرواية، مثلاً، أصبحت الوسيلة التعبيرية الأكثر انتشاراً في الأدب الحديث، خصوصاً مع التعقيدات المجتمعية التي رافقت الثورة الصناعية وصعود البرجوازية وظهور الطبقة الوسطى. تبدو الرواية أكثر انتشاراً من الشعر في الثقافات الأوروبية، لكنّ شمعة الشعر لم تنطفئ، والقرون الثلاثة الماضية في أوروبا غنيّة بتجارب شعرية عالمية وذائعة الصيت.
فرّقت السياسةُ الأمة العربية، لكنّ الشعر ما زال يجمعها
يكادُ لا يمرّ عصرٌ إلّا وله شاعرُه. والشعر العربي مثالٌ جيد على ذلك. منذ القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا والتراث الشعري العربي يتدفّق، مستعيداً أصواتاً من عصور أخرى، وصانعاً أشكالاً ومحتويات جديدة تخصّ السياق الحديث للعالم العربي. ترنّحت أشياء كثيرة، منها فكر العروبة والقوميّة لأمّة تشترك بلغة وجغرافيا وتراث واحد. لكن بقيَ شِعرُها. نستطيع القول إن السياسة فرّقت الأمة العربية، ولكنّ الشعر (واللغة بالمفهوم الأوسع) لا يزال يجمعها.
بعد كل هذا: هل يموت الشعر؟
في نهاية الحرب الباردة، أتى مُنظّرٌ سياسي أميركي اسمه فرانسيس فوكو ياما وادّعى نهاية التاريخ، وسمّى كتابه بهذا الاسم (نهاية التاريخ). قصدَ من ذلك أنّ اقتصاد السوق القائم على الرأسمالية، والتنافس شبه المنظّم، والديمقراطية، والمؤسّسات الغربيّة الليبرالية، التي تنظّم الحُكم وتفصل بين السلطات، قد حلّتْ جميعها محلّ النظم القديمة، وهي النموذج الأنبل لقيادة حياة البشر نحو نظام سياسي مزدهر. يعني هذا أنّ هزيمة شيوعية الاتحاد السوفييتي ليست هزيمة نظام سياسي فحسب، ولكن أيضاً هزيمة فكرة بالأساس، مرّةً وإلى الأبد.
طبعاً، أخطأَ فوكو ياما لأنّه اعتبر أنّ النظام هو الذي يصنعُ البشر، في حين أنّ البشر هم الذين يصنعون النظام والتاريخ. يعني هذا أنَّ الغرب، خصوصاً ذلك الذي تجسّده أميركا، قد يتخلخل وقد ينهار، كما كلّ الأنظمة البشريّة على مدار التاريخ، إنْ لم يُحرَس النظام وتُدَر القوّة بمنطق واتّزان وسياسة حكيمة. وقد رأينا ذلك ونراه في صعود اليمين المتطرّف في الغرب، وحركات غوغائية، وعنصريّة، منكفئة على ذاتها، تديرها غرائز حيوانيّة مقيتة. إذن، التاريخ ليس مؤسّسات فقط، على أهميّة المؤسسات والنظُم. التاريخ بشرٌ: هُم مَن يصنعون وهم من يهدمون.
ونعودُ إلى الشعر للقول: إنّه لا نهاية للشعر، كما لا نهاية للعقل، كما لا نهاية للتاريخ. قد تتجمدُ كلّ هذه الأشياء وتبدو متخشّبة في لحظات تسوَدُّ فيها قتامةُ الحياة البشرية، خصوصاً في سياق جائحات وأوبئة فتّاكة، وحروب طاحنة، وصراعات وأيديولوجيات مريرة. لكنْ، ثمّة دائماً ضوءٌ ما يقاوم الانطفاء وسط الخراب، وهذا الضوء هو الإنسان الأصل وحاسّة البقاء، وربّما السموّ فيه.
ضوءُ العقل والقلب، بمنطِقه وشِعره، هو الأمل الذي يجبْ أن يُعَوَّل عليه في مسيرة هذه الإنسانية، المتأرجحة أبداً بين الظلام والنور.
* ناقد وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن