تلقّى الجيل الأول من المعماريين العراقيين تعليمهم الأكاديمي في بريطانيا، والغرب عموماً، وعادوا إلى بلادهم ليمارسوا مهنتهم في مرحلة تأسيس الدولة الحديثة، وهم مشبعون بروح الحداثة والرغبة في الخروج عن تقاليد وطرز البناء المتوارثة عن العثمانيين، وكان في مقدّمة هؤلاء مدحت علي مظلوم (1913- 1973)، الذي تدرّب في مكتبه العديد من روّاد العمارة؛ مثل شقيقه سعيد (1921 - 2017)، ورفعت الجادرجي (1926 - 2020).
تميّز أفراد ذاك الرعيل بنظرتهم إلى عملهم من منطلقات فكرية بحكم دراستهم الأكاديمية، ورؤيتهم في تحديث مجتمعاتهم؛ حيث العمران شكّل بالنسبة إليهم عنصراً مهماً مؤثراً في هذا السياق، إلى جانب ثقافتهم الواسعة واهتمامهم بالأدب والفنون، ومنهم سعيد مظلوم الذي لم ينل الصيت والسمعة اللذين نالهما آخرون، لابتعاده عن مناقشاتهم الصاخبة التي تبادلوها منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وتنافسهم في الوقت نفسه على تصدّر المشهد المعماري؛ سواء في التنظير أو الممارسة.
في مطلع الخمسينيات، بدأ سعيد مظلوم، الذي يُحتفى العام الجاري بمئوية مولده، كتابة مقالات منتظمة في مجلة "أهل النفط"، والتي صدرت في كركوك ولا تزال تُعدّ مصدراً لدراسة التطور الاقتصادي والاجتماعي في المدينة والعراق بشكل عام، حيث تناول العمارة العراقية وأضاء أعمال العديد من المعماريين، وهي الفترة التي التحق فيها للعمل مدرّساً في كلية الهندسة بـ"جامعة بغداد"، وبدأ يقدّم رؤيته ومقارباته في المشاريع المقدّمة من طلبته، والذين وضع بعضهم العديد من التصميمات الشهيرة في العاصمة العراقية.
بعد عمله لفترة ليست بالقصيرة في مكتب شقيقه مدحت الذي شكّل حلقة ثقافية آنذاك، انفصل عنه وأسّس مكتبه الخاص في الستينيات، وصعد اسمه مهنياً بشكل تدريجي مع تصميمه مباني عديدة، من أبرزها المستشفى الحيدري سنة 1961، الذي شيّد بالقرب من ساحة الأندلس ببغداد، وشكّل نموذجاً لافتاً في مفاهيم العمارة؛ حيث صمّم المبنى بما يشبه المنازل البغدادية العصرية، في محاولة منه لكسر تلك الصرامة والرتابة المعتادة في بناء المستشفيات، وجعل فضاءاته أكثر ألفة وحميمة للمقيم والزائر، مع اهتمام واضح بتصميم الحديقة المجاورة باعتبارها وحدة أساسية في التصميم.
استعار مفردات معمارية من التراث وصاغها في لغة معاصرة
ضمن التحوُّلات التي طرأت على المشهد المعماري العالمي في السبعينيات، وصعود التنظيرات التي دعت إلى عدم التقيّد بمبادئ الحداثة والالتزام بأسسها، والذهاب نحو تصميم أكثر حيوية وتفاعلاً مع محيطه، وضع مظلوم تصميمات لافتة مثل "معهد الفنون الجميلة" في حي المنصور البغدادي عام 1972، مع استعارته "الشناشيل" التي كانت مفردة أساسية في العمارة العراقية التقليدية، وتوظيفها ضمن رؤيته المعاصرة.
وتمّت محاكاة هذه الشناشيل بأسلوب ينزع نحو التجريد في الشكل، على أن تقوم بوظيفتها ضمن موقع البناء فهي تكسر أشعة الشمس الحارة المنعكسة على واجهته، ما يعني استجابة المعماري وتكيّفه مع عوامل المناخ والبيئة المحيطة به، وهو ما برز بشكل مدروس في فتحات واجهة المبنى بطوابقه الثلاثة، وتكرّس رؤاه في تضمين العمارة التراكم الحضاري لبلاده.
استفاد مظلوم من دراسة العمارة في "مدرسة ليفربول" ببريطانيا، ومن اطلاعه المعمّق على تطوّر المعمار في العراق، في إطار سعيه للوصول إلى أسلوبه الخاص الذي اتبعه في تنفيذ العديد من المشاريع؛ مثل مستشفى الشعب سنة 1960، والبنك المركزي في كلّ من مدينتي البصرة والموصل عام 1967، وكلك كلية طب الأسنان في منطقة باب المعظم ببغداد عام 1969، بالإضافة إلى مبنى وزارة الخارجية الذي صمّمه سنة 1975.