سقوط سردية روائية

03 يناير 2025
تمثال مدمَّر لحافظ الأسد في دير عطية بريف دمشق، 28 كانون الثاني/ ديسمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انقسم المجتمع السوري إلى سرديتين: سردية الثورة وسردية النظام، مما انعكس في الأدب حيث عبر الروائيون عن مواقفهم المتباينة.
- استخدم أنصار النظام الأدب للدفاع عنه، مغلفين مواقفهم بشعارات وطنية، مما أثار تساؤلات حول دور الأدب في دعم السلطة المستبدة.
- بعد سقوط النظام، انهارت قناعات الكتّاب الذين دافعوا عنه، مما أثار تساؤلات حول مصير رواياتهم وكيفية تعاملهم مع ماضيهم الأدبي.

كنتُ قد كتبت أكثر من مرّة عن تعدّد السرديات في سورية، وفكرة الكتابة هي أنّ المجتمع السوري كان قد أخذ ينقسم أُفقياً وعمودياً بين سرديّتين كبيرتين، الأُولى هي سردية الثورة وأنصار الثورة، والثانية هي سردية النظام، ومُوالي النظام. وقد بدا على السطح أنّ كلّ وحدة من تلك الوحدات باتت تتمتلك عالماً خاصّاً بها تجاه الأحداث الكبيرة التي شهدتها سورية في السنوات الماضية منذ بداية الثورة السورية.

ومن اللافت أن تكون الرواية وحدها قد تحمّلت عبء تلك السرديات والنطق بما فيها  بخطاب مختلف يُكنّ عداءً عميقاً للخطاب النقيض في الجانب الآخر. سوف نشهد مثل هذا التناقض بين روائيَّين يقطنان في منطقتين جغرافيّتين متجاورتَين جدّاً، وهما ينتميان إلى موقع فكري أو طائفي أو ديني أو سياسي يتعارض مع الموقع  الآخر.

كان أنصار السردية الثانية يُغلفون مواقعهم الفكرية والإبداعية بـ"سلوفان" لامع اسمُه الوطن، بينما كانوا يدافعون عن النظام حصراً، بعد أن يدمجوا الوطن بداخله، وليس العكس. كان النظام السوري قد قزّم الوطن، وفصّله على مقاس رئيسَيه، الأب والابن. وقد تتبّع بعض الكتّاب هذا الخطاب، وكان مسعاهم الوحيد، كما سيتكشّف هذه الأيام، إرضاء رأس السلطة.

اللافت أن يكون بعض الروائيّين هُم أكثر من تواطؤوا كتابةً وتأليفاً مع الطاغية، أسماؤهم ورواياتهم تشهد عليهم. لا أكتب الروائيّين بأل التعريف، فالساحة الأدبية لم تكن ملكاً لأحد، ولهذا فإنّ الأسماء التي تسلّل أصحابها إلى سردية النظام لا تمثّل الروائيّين السوريّين كي نجمعهم مع الآخرين بأل التعريف، سواء كانوا قلّة أم كثرة.

انهارت قناعاتهم على شاكلة انهيار النظام الذي دافعوا عنه

ليست الأسماء مهمّة في واقع الأمر، بل التجربة نفسها، أي تجربة إنتاج رواية كاذبة تماماً، تزيّن الأفعال الشنيعة التي تُرتكب بحقّ الإنسانية. هل هذا فريد في الأدب؟ مَن لديه معلومة عن بلد يُنتج روائيّين يتجرّأون على الحقيقة والشرف والأخلاق؟ خصوصاً أنّ الرواية أو أنّ كتابة الرواية تتطلّب رؤية للعالم تتّسم بالعُمق والمعرفة والانتصار لقضايا الإنسان، لا استعادة خطاب السُّلطة، أيّ سلطة بالمطلق، فكيف إذا كانت سلطة فاسدة مستبدّة ترتكب أبشع اشكال القمع؟

ولقد اعتقدت، ثم أثبت الزمن القصير خطأ اعتقادي، لحسن الحظّ حرفيّاً، أنّ لدى الذين ناصروا بشّار الأسد، ونظامه، أساساً فكرياً وسياسياً متيناً في داخلهم، بنوا عليه مواقفهم تجاه الثورة السورية منذ أن هبّت الاحتجاجات الأُولى في عام 2011، كان هذا الاعتقاد لديّ قائماً على قاعدة احترام الإنسان، والكاتب بالضرورة، فمن حقّ كلّ إنسان أن يكون لديه الموقف الذي يعبّر عن روحه وفكره وموقفه من الحياة والوجود، على أن لا تقفز فوق المتطلّبات الأخلاقية الأوّلية من كوننا بشراً، ومن كوننا كُتّاباً أصحاب ضمير.

غير أنّ ما حدث في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، التي أعقبت سقوط النظام، لم يكن في الحسبان قطّ. لقد تهدّمت تلك "اليقينيات" التي ادّعى هؤلاء الكُتّاب تمسّكهم بها، وانهارت، ولم يعُد لدى أيّ واحد من بينهم ما يُدافع عنه من ماضيه، أو ماضي النظام الذي كان يواليه. انهارت قناعاتهم على الشاكلة التي انهار بها النظام السياسي السوري، وبنيته العسكرية، والأمنية، والحزبية، ومن غير المعروف ماذا سيفعلون بالرواية؟


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون