تعرّفتُ إلى مصطلح "مستيسو" في أميركا اللاتينية. كان ذلك منذ وصولي إلى نيكاراغوا عام 2004 واستفساري الدائم عن أصول أهلها. معظمهم من ذوي البشرة السمراء، ولهُم ملامح أقرب إلى سكّانها الأصليّين، من قبائل الناوتل وتشوروتيغا وكاكوبيرا وغيرها. بيد أنّ معظمهم - في نهاية المطاف - يُعَدّ من "المستيسو"، أي الخليط من السكّان الأصليّين والأوروبيّين.
لكنّ مَن يزور مدينة ماتاغلبا، شمال نيكاراغوا، يدرك أنّ الأوروبي هناك مكث وقتاً أطول، أو ربّما كان بابُ الاستيطان متّسعاً أكثر بسبب برودة الجوّ في الشمال، والتي تقترب ولو شيئاً قليلاً من برودة القارّة الأوروبية، على عكس باقي المناطق التي تتّسم بجوّ استوائي حارّ جدّاً ورطوبة مرتفعة.
تَكوّن هذا الانطباع لديّ وعزّزه البحث والسؤال، وخصوصاً أنّه من المعروف نزوح عائلات ألمانية عديدة إلى تلك المدينة في أواخر القرن التاسع عشر ثم بعد الحرب العالمية الأولى، حيث عمل معظمهم في زراعة وتجارة القهوة. عرفتُ لاحقاً أن سرّ العيون الزرقاء والشعر الأشقر والأحمر أحياناً، والبشرة البيضاء ذات النمش، موجودٌ قبل ذلك التاريخ بكثير، فهذه المدينة الباردة ذات الطبيعة الجبلية كانت ملاذاً للأوروبي في فترات زمنية مختلفة.
لفتتْ إحدى المجموعات المحلّية في المدينة ـ وهي مجموعة مصنَّفة على أنّها من السكّان الأصليّين وموجودة في منطقة باكسيلا ـ أنظار المؤرّخين بسبب تميّزها بملامح أوروبية واضحة، لتُطرَح نظريات عدّة. فوفق المؤرخ النيكاراغوي المُعاصر إيدي كول، يتحدر أهالي باكسيلا من أصول تعود إلى شمال إسبانيا من إقليمَي الباسك أو نافارا، وقد وصلوا حوالي القرن السابع عشر، في فترات لاحقة للاستعمار الإسباني.
عدا ملامحهم، تتميّز ملابسهم ومفارشهم بتطاريز أوروبية
كانوا مزارعين، وفضّلوا البقاء منعزلين في تلك المنطقة المحاطة بالجبال كي لا يصطدموا بالسكّان المحليّين، وظلّوا كذلك نحو 400 عام لا يغادرون مكانهم إلّا قليلاً، يتزوّجون في ما بينهم، ويحافظون على نمط حياة معيّن، يعتمد على الزراعة. والاسم "باكسيلا"، بحسب كول، يعني فاصولياء حمراء ناقصة أو هزيلة بلغة "البوبولوكا"، لأنّ تلك الأراضي لم تكن تُزرَع فيها الفاصولياء كحال بقية أراضي نيكاراغوا، وتُزرع فيها أصناف مختلفة.
أمّا ملابسهم، فيميّزها بعض التطريز الأوروبي، وكذلك تُميّز مساكنَهم المفارش ذات التطاريز الأوروبية أيضاً. كما استطاع أهالي باكسيلا تجنُّب التجنيد الإجباري الذي فرضته الحكومات المتعدّدة التي سيطرت على نيكاراغوا، بسبب عزلتهم. وبحسب كول، فقد كانت لديهم نقاط مراقبة، فإذا ما شاهدوا مجنّدين، اختبأ شبانهم بين التلال حتى يرحلوا.
أمّا المؤرّخ البريطاني توماس بيلت، في كتابه "عالم الطبيعة في نيكاراغوا"، فاقترح نظرية أخرى؛ فخلال إقامته في نيكاراغوا عام 1872، صدمه وجود هذه المجموعة واعتقد في البداية أنّ أفرادها يتحدرون من أصول شمال أميركية ونزحوا إلى نيكاراغوا خلال الحرب الأهلية الأميركية. لكنّه أدرك أنّ وجودهم سبق ذلك التاريخ بكثير. وجد بيلت أنّ ملامحهم لا تشبه الإسبان، فافترض أنّهم من نسل القراصنة الفرنسيّين والإنكليز الذين عبروا هذه المناطق قبل الوصول إلى المحيط، وفضّل بعضُهم البقاء فيها.
وسواء كانوا من نسل مستوطني الباسك أو القراصنة، فيبدو أن جبال باكسيلا المنعزلة جذبت أسلافهم فوجدوا فيها الكنز الحقيقي الذي كانوا يبحثون عنه في أعماق الكاريبي. اليوم، نجد أبناءهم يبيعون ما تنتجه الأرض من خضار على قارعة الطريق الواصلة بين مدينتَي ماتاغلبا وهينوتيغا، كأبعد نقطة - ربما - يفكّرون بالوصول إليها.
*صحافية ومترجمة أردنية فلسطينية مقيمة في نيكاراغوا