في عام 2016، أقام التشكيلي السوري بطرس المعرّي (1968) معرضاً في "غاليري تجلّيات" ببيروت، ضمّ قرابة خمسين لوحةً تناولَت أكثر من موضوعٍ عبر أكثر من حامل، لكنّها التقت في ثيمة رئيسية هي سورية الماضي؛ حيث كان المشترَك فيها هو الحنين إلى الطفولة والصبا، والأسى ممّا آلت إليه تلك البلاد اليوم. حمل المعرض عنوان "دكّانة أبو ماتيس"، في ما يُشبه دعوةً للمتلقّي غير المهتمّ بالفنّ التشكيلي، وبالثقافة بشكل عام، إلى عدم التردُّد في دخول قاعة العرْض؛ مِن خلال تشبيهها بمكانٍ يدخله كلَّ يوم.
يعودُ المعرّي، الذي يُقيم في مدينة هامبورغ بألمانيا، إلى بيروت مُجدَّداً، في معرضه الجديد الذي افتُتح الجمعة الماضي (التاسع من كانون الأوّل/ ديسمبر الجاري) في "غاليري كاف" بالأشرفية، ويستمرُّ حتى الثامن عشر من كانون الثاني/ يناير المقبل، ويحمل عنوان "سمٌّ في الهواء: تحيّة إلى جبّور الدويهي".
من بين أعمال المعرض ثلاثُ ثلاثيات كبيرة من الأكريليك على القماش؛ هي "العشاء الأخير"، و"سورية الحرب"، و"سمٌّ في الهواء" التي يحمل المعرضُ اسمها، واثنان وعشرون عملاً صغيراً يصفها المعريّ بـ "التسالي"؛ إذ يُشبّهها بالتمارين أو الأشغال التي يُنجزها الفنّان للتسلية وتزجية الوقت، إضافةً إلى مجموعةٍ أُخرى من الأعمال تتناول مواضيع مختلفة؛ بدءاً بالأجساد العارية، ووصولاً إلى المأساة السورية التي تحضر بأشكالٍ مختلفة؛ من بينها الزوارق الصغيرة التي تحيل إلى اللاجئين.
"سمٌّ في الهواء" هو، أيضاً، عنوان آخر روايات الكاتب اللبناني جبّور الدويهي (1941 – 2021)، والذي يُوجّه له بطرس المعرّي تحيةً من خلال هذا المعرض. عن ذلك يقول، في حديثٍ إلى "العربي الجديد": "وأنا أُحضّر للمعرض، لم يكُن في ذهني اسمُ المعرض ولا اسمُ اللوحة ولا التحية. لكنّ الصدفة تأخذنا، أحياناً، إلى أماكن غير متوقَّعة. لم أكُن قد قرأتُ رواية الدويهي حين بدأتُ برسم اللوحة التي ستحمل لاحقاً اسم 'سمٌّ في الهواء' (وهي عملٌ يحمل شيئاً ممّا نعيشه في المنطقة، وخصوصاً في سورية ولبنان اللذين يعيشان مأساةٍ واحدة). ومع تطوُّر العمل، خطر ببالي الدويهي وعنوانُ روايته الأخيرة. وعلى هذا الأساس أكملتُ اللوحة كما لو كنت أشتغل مِن وحي الرواية التي أكملتُ قراءتها مع انتهاء الاشتغال على اللوحة".
السمّ هو أيضاً هذا الوباءُ الذي انتشر في العالم كلّه
يُضيف: "يعيشُ بطلُ الرواية انفجارَ مرفأ بيروت، وآثاره على المدينة التي تدمَّر جزءٌ منها في لحظةٍ واحدة، في مأساةٍ عشنا، نحن السوريّين، لحظاتٍ كثيرةً مثلها. وحين أنهيتُ اللوحة، رسمتُ في مكانٍ جانبيٍّ منها صوامع القمح في المرفأ أو ما تبقّى منها، ووضعتُ العنوان". وإلى جانب هذا التقاطُع مع رواية الدويهي، يُشير المعرّي إلى أنّ "السمّ في الهواء هو أيضاً الوباءُ الذي انتشر في العالم كلّه ولم يعرف حدوداً، وأثّر على نفسياتنا؛ حين اضطررنا في وقت من الأوقات للبقاء في بيوتنا، عاجزين عن التواصُل وخائفين منه. كانت أيّاماً غير طبيعيّة على كلّ الأصعدة".
إلى جانب "سُمّ في الهواء"، يحضر جبّور الدويهي أيضاً في واحدةٍ من اللوحات الصغيرة في المعرض؛ وهي بورتريه أنجزه المعرّي بُعَيد رحيل الروائي اللبناني في تمّوز/ يوليو من العام الماضي. يقول عن ذلك: "اكتشفتُ الدويهي في وقتٍ كنت بعيداً عن القراءة، بسبب انشغالي بأمور شخصية بالإضافة إلى الرسم الذي كنت أُخصّص له كلّ وقتي. تعرّفتُ إليه عن طريق أحد الأصدقاء المشترَكين، وبدأتُ بقراءة روايته 'مطر حزيران' التي لفتتني فيها السلاسة التي يكتب بها؛ إذ بقيتُ مستمتعاً بالقراءة، ومُعجَباً بملَكته الاستثنائية في السرد".
ويُواصل: "مرّةً كتب عن أيقونة، فاستوحيتُ منه رسماً صغيراً لا يتجاوز 15 × 15 سنتم، ثمّ رسمته ضمن بورتريهات أنجزتُها بتقنية المونوتيب لأشخاص أحبّهم ويعنون لي شيئاً وأُحبُّ ما يقدّمونه من فنّ وأدب. وكان هذان العملان الصغيران تحيةً صغيرة له. أردتُ أن أقول له شكراً لك، لأنّك قدّمتَ لي وجبةً ثرية من خلال 'مطر حزيران'، و'شريد المنازل'، و'حيّ الأمريكان'، و'طُبع في بيروت' و'ملك الهند'، و'سمٌّ في الهواء'".
ويختتم المعرّي حديثه إلى "العربي الجديد" قائلاً: "إحدى أهمّ لوحات المعرض تحمل عنوان رواية له. من الطبيعي، إذن، أن يوجّه المعرض تحيةً له، ومن خلاله إلى بيروت وإلى هذا البلد الذي بقي حيّاً رغم ما عاشه ويعيشه من انكسارات".
يُذكَر أنّ آخر معرضٍ أقامه بطرس المعرّي، قبل معرضه الحالي المستمرّ حتى الثامن عشر من الشهر المقبل، كان في "غاليري كلود ليمون" بباريس عام 2019، وقد ضمّ اثني عشر عملاً كبيراً، وحملَ عنوان اللوحة الرئيسية فيه، "وا حبيبتي سورية" حول أبٍ يحمل جثّة ابنته التي فُجع بها خلال الحرب.