استمع إلى الملخص
- انهيار نظام الأسد الأب بدأ فعليًا في 2011 واستغرق ثلاثة عشر عامًا ليظهر بشكل كامل، مما يتطلب من السوريين العودة إلى لغة النقد المباشر.
- رغم انهيار الديكتاتورية، لا يزال الخوف من الآليات النفسية للرفض قائمًا، مما يستدعي تعزيز حرية التعبير وإعادة بناء الثقة في المجتمع.
ما من سوريّ، إلّا وكانت لديه طريقة للتعبير عن رأس النظام السابق من غير أن يذكره بالاسم. طرقٌ تختلف من واحد إلى آخر، تبدأ بالإيماءة والحديث غير المباشر، وتنتهي بإسناد أسماء حركية له. غالباً تكون معروفة في الدائرة الموثوقة التي تحيط بالمرء. وكانت الإشارة العامّة المتّفق عليها بأنّ الرئيس قوّة غائبة. إنّه حتّى في اللغة ضمير غائب، ويمكن القول باستخدام مصطلحات الجمهورية: إنّ رأس النظام السابق كان سيادة الضمير الغائب.
سيادةٌ دفعت بالسوريّين عامّة إلى التعبير بمواربة عن آرائهم في السياسة، باستثناء من خرج في مظاهرات ضدّ نظام الأسد. إلّا أنّ المجموع الصامت بقي لديه أسلوبه في الرفض والاعتراض. أمورٌ تشرح، على سبيل المثال، شيوع النكتة السياسية في سورية، مملكة الخوف التي اتّضح مع سقوطها أنّها كانت تنطوي على فراغ رهيب ولا مبالاة مدمّرة؛ فالديكتاتور، كما رأينا، لم يكن أكثر من فتى جاهل وأرعن. والنظام الذي سقط في الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر (الماضي) لم يكن نظامه، بل كان نظام الديكتاتور الأب حافظ الأسد.
مع ذلك، وكي لا نُسهب في قراءة الماضي في هذه الأيام التي توجب أن يتحدّث المرء فيها بشكل حيّ، فإنّ السوريّين أمام امتحان التحدّث المباشر عمّا يشغلهم، وعن مخاوفهم، وينبغي أن يستعيدوا لغة النقد المباشر التي لا تجعل السياسة حديثاً في الماورائيات، والنقد مُسنداً إلى المبني للمجهول.
فلتسقط أساليب التعبير غير المباشرة مع سقوط الأسد
أخذت مملكة خوف الأسد الأب ثلاثة عقود من البناء، وقد انهارت عملياً بفعل عطالتها مع بداية عام 2011. لكن احتاج تكشُّف انهيارها ثلاثة عشر عاماً من التعنّت، بعد أن بلغت مبلغاً من التفسّخ لم يعد بإمكان القوى الدولية أن تدافع عنها. إذاً، مملكة الرعب التي أسّسها حافظ الأسد واستثمر بها صغيره انهارت انهياراً نهائياً، لا يصدّق بسهولة. إلّا أنّ تلك الآليات النفسية الرهيبة للرفض التي عاشت في قلوب ونفوس مجموع السوريّين، يُخشى أن تستمرّ في النموّ تجاه كلّ حاكم بفعل أسطورة عزّزتها سلطة البعث في الثمانينيات بأنّ للجدران آذاناً.
لكن مع انهيار الديكتاتورية، ينبغي أن يعود الجدار جداراً والآذان آذاناً. ينبغي أن تعود الأشياء إلى طبيعتها، لا إلى الطبيعة التي صدّرها بها النظام، وأرادها بها، وقد استخدمها بتلك الهيئة الشاذّة.
يحدث أن تنبت للجدران آذانٌ في الفنّ السريالي، لكنّه حدث أيضاً في ذهنيّة نظام المخابرات البدائي والمتوحّش الذي فصم الأشياء عن طبيعتها. وقد استطاع السوريّون أن يجدوا أساليب غير مباشرة تؤكّد عدم انسلاخهم عن طبيعتهم بكونهم بشراً يصعب ترويضهم ترويضاً محكماً نهائياً. مع ذلك، ينبغي خلع تلك العادة عن أساليبنا في التعبير، ولنتركها تسقط مع سقوط نظام الأب الحديدي. إذ لم تكن تعابير نبتت من تلقاء ذاتها، بل بناها الديكتاتور الأب بمعتقلاته وأجهزته الأمنية، وعزّزتها الثقافة التي انتشرت بين الناس. وفي دراما الطاغية نرى صوراً كثيرة منها.
لكن أخشى من اعتقاد جزء من الجمهور الصامت أن لا مكان له في ما يحدث هذه الأيام، لاعتبارات كثيرة؛ أوضحها الخوف من المجهول. أخشى أنّ هذا الجمهور يركن إلى الآلية الرهيبة نفسها أو يبتكر صورة عنها تجعلهم يحيدون عن الواقع الجديد الذي يرسم مصيرهم أساساً. فالثقافة التي صنعها نظام الديكتاتور، بأجهزته وفنونه، وآلياته البدائية المتوحّشة المختلفة، يحتاج التخلّص منها سياقاً طويلاً من تأكيد الحرّيات، حرّية القول والمعتقد، وحرية النقد بكلمات مباشرة، إلى جانب مفردات كثيرة كانت غائبة عن السوريّين، غياباً -من غير تنظير- كان يبدو أبدياً. لكن، وكأنّما المستحيلات تحدث، والنضالات تُثمر في أرضنا.
* روائي من سورية