"سيرة غامرة": فريدا كالو بعينين واسعتين وجناح مكسور

30 نوفمبر 2022
من المعرض (العربي الجديد)
+ الخط -

كثيرون حول العالم عرفوا الرسّامة المكسيكية فريدا كالو التي عاشت عمرها القصير مليئاً بالجنون والحطام والفنّ الذي مارسته على حافة الموت وبجموح كأنها ستعيش إلى الأبد، ومن هؤلاء من تعرّفوا إليها بعد أن شاهدوا أعمالاً سينمائية وتلفزيونية روائية ووثائقية عنها، بيد أن سيرتها تبدو أكثر خيالاً ونزفاً، من المقاربات التي حاولت ملامسة عالمها. 

هذه "سيرة غامرة"، كما اختير عنوان المعرض الذي افتُتح عصر السبت الماضي في "متحف بيت بن جلمود" بمشيرب قلب الدوحة. سيرة جاءت لتقدّم تجربة مختلفة عن حياة هذه الفنانة (1907 - 1954).

يُقام المعرض ضمن الفعاليات الثقافية والفنية التي تستضيفها قطر احتفالاً ببطولة كأس العالم لكرة القدم، بالتعاون بين "مشيرب العقارية" و"مركز الدراسات القانونية والاجتماعية" (CELS) و"مؤسسة فريدا كالو" وشركة "نكست للمعارض". لم نكن أمام لوحات استعادية بل تجربة استخدمت فيها تقنيات عالية لتضعنا في رحلة بصرية من ثلاث مراحل، استخدمت تجربة الواقع الافتراضي في حياة وأعمال كالو لتعرض بيئتها وعالمَها التصويري وتصوُّرها الخاص الذي جعلها فريدةً من نوعها.


سرير الحِداد

في الأُولى، ندخل إلى بيتها في كويوكسان، بداية القرن العشرين، وتبدأ هذه الرحلة من السرير الذي أَنجزت عليه الفنّانة معظم أعمالها. وفي المرحلة الثانية، يُواصل المُشاهِد الرحلة في مَشاهد تعرض الخصائص والعناصر البصرية لأعمالها. وفي الثالثة مرحلة الموت، حيث الحِداد عنصر أساسي مُتجذّر بعمق في الثقافة المكسيكية ويصبح رمزاً أساسياً في لوحات كالو الأيقونية.

رحلة بصرية من ثلاث مراحل في بيئتها وتصوُّرها الخاص

وإلى جانب هذا العرض الافتراضي، يقف المُشاهد أمام عرض بتقنية الفيديو ثلاثي الأبعاد، يوثّق مراحل معروفة وأُخرى خَفيّة في مسيرتها، مُركّزاً على الحياة الصعبة التي عاشتها، حيث عانت من المرض والخيبات، وكيف حوّلتها الفنّانة إلى فرص وأعمال عامرة بالطاقة.

استخدمت فريدا كالو نمط الفن الشعبي لاستكشاف أسئلة الهوية، وما بعد الاستعمار، والطبقية، والعِرق في المجتمع المكسيكي. وبدأت أعمالها الفنّية بعد أن أُصيبت بحادث حافلة عام 1924، ألزمها السرير بدون حركة لعامٍ كامل، فطلبت فرشاة وألواناً وبدأت في الرسم.


هل نفهمها؟

يقف المعرض الافتراضي أمام سؤال لا يطلب عنه جواباً: "يمكن أن نقول إنّنا نعرف فريدا كالو. لكن هل نفهمها؟ ما الذي يكمن وراء فنّها وعشقها للموضة والحياة ما الذي يجعلها أيقونة العالم اليوم؟".

والعرض الذي ندخله مزيجٌ من العاطفة والسحر والقوّة الهائلة التي تدفع امرأة كي تكون بجسدها، الذي شبّهتهُ أمّها بأنه حمامةٌ مقارنة مع زوجها دييغو ريفيرا "الفيل"، أحد العناوين التاريخية لحضور المرأة بأظفارها ونسغها العاشق للمغامرة والتحدّي. هذه صورة فوتوغرافية لنساء الثورة المكسيكية يحملن البنادق عام 1910، لماذا وُضعت مع جملة من الصور الثورية لتفتتح عالم فريدا؟


تخطيط قلب

لقد أبصرت الفنانة النور في السادس من تمّوز/ يوليو عام 1907، وعاشت في البيت الأزرق ورحلت فيه، وورثت روح والدها المُصوِّر الفوتوغرافي. وفي عمر ستّ سنوات، ستتعرّض لشلل أطفال يدّمر عضلات رجلها اليمنى، ومن هنا تنفجر موهبتها لتكون واقعية الصورة الوثائقية عتبة إلى ما بعد الواقعية، أي إلى الكابوس الذي فشل في أن يكون حلماً موائماً.

قبل دخول العرض على الشاشات الرقمية والتصوير ثلاثي الأبعاد، نطالع مخطّط الرحلة الزمنية لفريدا. إنها تواريخ موحية مرسومة كما لو أنها ضربات تخطيط القلب في المستشفيات.

وثّق العرض ثلاثي الأبعاد لمحطّات خَفيّة من مسيرتها

يطرح هذا التخطيط معلومات دقيقة صاعدة ونازلة، تستوقفنا فيها تواريخ المأساة الجسدية التي أضافت إلى شلل الأطفال نكبات جديدة. ففي 17 أيلول/ سبتمبر 1924، تتعرّض لحادث باص قوي، ظلّت تحمل آثاره كامل حياتها، ولتبدأ الرسم خلال فترة العلاج لمدّة عام.

وفي ربيع 1932، تنتقل مع زوجها دييغو ريفيرا إلى ديترويت. وفي يوليو/ تمّوز، تعاني من الإجهاض (ستتعرّض لثلاث حالات إجهاض في حياتها)، فتدخل إلى "مستشفى هنري فورد" للعلاج لمدّة 13 يوماً. وفي عام 1946، تسافر إلى نيويورك مع شقيقتها كريستينا لتخضع لعملية الالتحام الشوكي لدمج الفقرات، وهناك تقابل الرسّام الإسباني جوزيب بارتولي وتدخل في علاقة معه لمدّة ثلاث سنوات، بعد طلاقها عام 1940 من ريفيرا الذي اكتشفت خيانته. وفي 13 نيسان/ إبريل 1953، تفتتح معرضها الفردي الأوّل في المكسيك. وبسبب مرضها وضعفها البدني، تصل إلى المعرض في سيارة إسعاف وتستقبل الزوّار على سرير. وفي آب/ أغسطس من ذلك العام، تتدهور صحتها وتُبتر رجلها اليمنى.

هذه العلاقة مع دييغو ريفيرا كانت صاخبة. هو الفنّان فائق الشهرة وفي سنّ والدها، المُغرم بالعلاقات النسائية، وقد تعرّف إليها حين انخرطت في الحزب الشيوعي المكسيكي عام 1928، وشجّعها على الرسم، ثم تزوّجها.

من معرض فريدا كالو - القسم الثقافي
من المعرض (العربي الجديد)

ولا ننسى محطّة تبدأ منذ ذلك اليوم، التاسع من كانون الثاني/ يناير 1937؛ حين وصل الثوري الروسي ليون تروتسكي وزوجته ناتاليا إلى المكسيك وأقاما في البيت الأزرق، وبعد ثلاث سنوات اغتيل واستُجوبت كالو لاثنتي عشرة ساعة، لأنّ القاتل رامون ميركادير زار منزلها مرّتين.


في نيويورك

هذا المسار التاريخي، يصادف خروج لوحات كالو إلى العالم الأوروبي والأميركي أولَّ معرض تنظّمه في نيويورك عام 1938، هذه المدينة التي تحبها مثلما لم يحبّها عديدون من الكتّاب والفنّانين في ذلك الوقت، ممّن صدمتهم ما باتت تُعرف بـ"غابة الإسمنت". وفي كانون الثاني/ يناير من العام الموالي، 1939، ستسافر إلى فرنسا للمشاركة في "معرض مكسيك" من تنظيم أندريه بريتون ومارسيل ديشان ويشتري "متحف اللوفر" لوحتها "الإطار".

يقترح المعرض إذاً هذا الإطار التوثيقي، بيد أنّ أفكاره الاستثنائية هي العالم الذي نعيشه من ثلاث جهات، تعجّ بألوان فريدا كالو ورموزها الثقافية وتمرّدها السوريالي، محفوفة بموسيقى تبدو قادمة من جذور الثقافة المكسيكية القديمة والمستجدّة، ومن صدور الشعب الذي تشكّل في حروب الإبادة والاستقلال.

تظهر الشخصيات التي نعرفها بالاسم وشاهدنا صوراً لها من قبل، في توليفات جديدة ذات مسحة دوكودرامية، وبدت لوحاتها منثورة بشظايا لونية في السماء والأرض. هذه حزوز البطّيخ الشهيرة، وهذه هياكل عظمية، وأزهار باذخة الألوان. ومن يتنقّل في هذه الأجواء يجلس على ذات السرير مُنطلقاً من غرفتها المضاءة بضوء النهار الطبيعي. وتبدو كالو دائماً، سواء في العرض ثلاثي الأبعاد أو الواقع الافتراضي، كأنّها تحلّق بالصور ومن عليها، بعينيها الواسعتين وجناحها المكسور.

المساهمون