مع عودتي إلى الدنمارك صيفَ العام 2016، قرّرتُ - من بين أمور عديدة - تأسيس نادٍ للملاكمة في فولسموسه، بالتعاون مع مدرّبي القديم، شهباز أسلام. حمل النادي اسم "فولسموسه للملاكمة". لم أطمح أبداً، في الحقيقة، إلى أن أصبح مدرّب ملاكمة، ولكنّي كنتُ أتماثل مع هوية الملاكمين الشباب في فولسموسه، أفهمهم وأريد لهم أن يتوفّقوا في خياراتهم. كنت أودّ أن أساعد وأدعم أولئك الذين يحتاجون إلى دعمٍ من أجل تحقيق أحلامهم. نجاحهم هو الذي كان يُسعدني ويجعلني آمل على الدوام في أن يتمكّنوا من الوصول إلى أبعد ممّا وصلتُ إليه. أعطتني الملاكمة الكثير، الكثير جدّاً بالفعل، على الصعيد الاجتماعي والهويّاتي على حدّ سواء.
كان أوّل نادٍ للملاكمة في فولسموسه قد رأى النور عام 1999. ومنذ ذلك الحين، أصبحَت القاعاتُ التي خُصِّصت للملاكمة مصدراً لعدد لا يُحصى من قصص نجاح الملاكمين في جانبٍ من الحيّ كان غارقاً في قصصٍ سلبية تركّز عليها مختلف وسائل الإعلام. سُمّيَ النادي "BK99"، وقد أسّسه كلٌّ من مدرّب الملاكمة جيم فراندسن، والملاكم الذي كان في قمّة عطائه، شهباز أسلام. كلاهما كان عضواً سابقاً في "نادي أولمبيا الرياضي"، الواقع في مركز مدينة أودنسه. كان خروجهما من ذلك النادي في أودنسه، على الأرجح، بسبب عدم توافق شخصيّ وخلافات داخلية. وكبديل لذلك، قاما بتأسيس النادي الجديد في فولسموسه، انطلاقاً من الرغبة في إبراز سِمة شباب فولسموسه من خلال الملاكمة. كان اثنان من الملاكمين في النادي الجديد - وهما شهباز أسلام ويوسف نديم - قد دخلا المنتخب الوطني وأظهرا نتائج مبهرة. ومن بين إنجازاته، فاز شهباز بالميدالية الذهبية في "بطولة كأس كوبنهاغن" المعروفة، وهي بطولة دولية تشارك فيها أقوى الدول في العالم، وقد تمكّن يوسف أيضاً من المشاركة في "بطولة أوروبا للملاكمين" تحت سنّ 19 سنة.
لم يستمرّ نادي "BK99" سوى لسنتين، حيث توقّف جيم فراندسن عن التدريب فيه، وحاول شهباز أسلام المواصلة في هذا المجال كملاكم محترف، ولكنّه لم ينجح، فعاد إلى ناديه القديم في أودنسه. عقب فترة وجيزة من إغلاق "BK99"، انضممتُ إلى "أولمبيا"، وسرعان ما بنيت علاقة جيّدة مع مدرّبي النادي والملاكمين الآخرين، ومع متعهّد المباريات بيني شولتز، الذي كان مسؤولاً عن تنظيم المباريات للملاكمين. تمكّنتُ، بعد وقت قصير، من أن أكون جاهزاً للملاكمة ضمن مباريات "أولمبيا" المحلّية في منطقة سوهوسالين في أودنسه. ومنذ ذلك الحين، أصبحتُ متمكّناً في مجالي وخلال وقتٍ قصير. تدرّبت على قدم المساواة مع أفضل الملاكمين في النادي، الذي كان أربعةٌ من أعضائه في ذلك الحين من ضمن الملاكمين في المنتخب الوطني، وكان النادي قد تُوِّج للتوّ بلقب "نادي العام المثالي". وبعد مرور سنة على انضمامي كعضو، تمّ تتويج "أولمبيا" كنادٍ حقّق أفضل النتائج في البطولات الدنماركية.
ليس غريباً أن يحقّق أبناء المهاجرين أفضل النتائج عالمياً
تدريبي مع هؤلاء الملاكمين كان يعني أنّ حياتي، وفي وقت قصير، قد أخذت شكلاً جديداً: ارتباطي بالمدرسة، وتدريباتي في الملاكمة، والأكل والنوم. كان من السهل تلمُّس مقدار ما استثمره الملاكمون الأكبر سنّاً وذوو الخبرة في الملاكمة، وقد كنتُ على استعداد لتقديم ما يمكنني تقديمه من أجل الوصول إلى نتائج أفضل وتحقيق طموحاتي.
في ربيع عام 2002، أُعيد فتح الصالات التي كانت مخصّصة للملاكمة، والتي سبق أن استخدمها نادي "BK99" في فولوسموسه، ولكنْ هذه المرة كانت على شكل نادٍ تابع لـ"أولومبيا"، والذي قامت بدعمه بلدية أودنسه. كان الغرض من التعاون، بالنسبة إلى البلدية، هو إنشاء نادي ملاكمة يعمل على جذب الشباب في فولسموسه، وإبراز المنطقة بشكل إيجابي. وبالنسبة إلى "أولمبيا" كان ذلك من أجل توسيع شبكة تواصل النادي لكي ينضمّ المزيد من الأعضاء إليه، وبالتالي توفير فرص أفضل لتطوير المواهب المتميّزة في مجال الملاكمة.
مدرّبو هذا النادي الوليد كانوا على التوالي شهباز أسلام، الذي كان قد استأنف مسيرته في الملاكمة كهاوٍ، وفاز للتوّ بالبطولة الدنماركية في "وزن الديك"، وأندرس هوجر، الذي كان في ذلك الوقت أفضل ملاكم من الهواة بلا منازع في الدنمارك وفي كلّ الأوزان، والذي أُدرج اسمه ضمن لائحة العشرين الأوائل في مراتب الملاكمة العالمية. كان هذان الملاكمان معروفَين في فولسموسه (عاش شهباز في تلك المنطقة، وعمل أندرس لعدّة سنوات في أحد النوادي خلال أوقات الفراغ المدرسي في منطقة ريسينغ، المجاورة لفولسموسه، والتي ينتمي إليها العديد من الأطفال). من الجانب الرياضي، كان كلٌّ من الملاكمَيْن في ذروة مسيرته، وقد جرى اختيارهما لتمثيل الدنمارك في بطولة كأس العالم في تايلاند.
جرت تسمية نادي الملاكمة الجديد "أولمبيا 2". وما إن مرّ عام على ذلك، حتّى أصبح نجاح النادي مرئياً. وفي غضون فترة تقلّ عن ثلاث سنوات، اختير اثنان من ملاكميه للانضمام إلى المنتخب الوطني الدنماركي: إبراهيم شحادة وأنا. بالإضافة إلى ذلك، كان لدى نادي الملاكمة تسعة ملاكمين نشطين وفريقٌ من المبتدئين. كان على الدوام في أقصى استيعابه. استمرّ وجود "أولمبيا 2" لمدّة 13 عاماً، وقد تمكّن الكثير من الملاكمين من المشاركة عبره في مباريات، وفاز العديد منهم في مختلف البطولات الوطنية والعالمية. كان للنادي أيضا دورٌ في مجال التعاون مع المدارس من خلال توفير ممارسة الملاكمة، حيث كان يجري تدريب الطلّاب على الملاكمة لمدّة يومين مدرسيّين كاملين في الأسبوع، كجزء من البرنامج المدرسي. كان ذلك في كلّ من مدرسة "أبيلغورد" و"هـ. سي. أندرسن". انجذب بعض هؤلاء الطلّاب إلى الملاكمة وانضمّوا إلى النادي، بينما كان بالنسبة إلى الآخرين مساحةً لتجريب طاقاتهم في أحد فنون الدفاع عن النفس.
في صيف عام 2015، اتّفق ناديا "أولمبيا" و"أولمبيا 2" على وقف التعاون بينهما. كان ذلك بسبب الخلافات حول كيفية إدارتهما، وكيفية تدريب الملاكمين. ولطالما شعر النادي الوليد في فولسموسه بتجاوُز النادي الأُمّ. كان هناك أيضاً على الدوام خلاف كبير حيال كيفية تدريب المدربين للملاكمين: حين يتلقّى الملاكم الشابّ ثلاثة أو أربعة توجيهات مختلفة في أسبوع واحد يناقض أحدها الآخر، وكان من شأن ذلك أن يخلق إرباكاً، فيفقد الملاكم التركيز على ما كان يتوجّب عليه تحسينه في أدائه، وأسلوب الملاكمة الذي يجب أن يطبّقه. وكنتيجة لهذه الخلافات، قرّر الطرفان أنّه من الأفضل إيقاف التعاون بطريقة ودّية.
بعد فترة وجيزة من انتهاء التعاون مع "أولمبيا"، غيّر "أولمبيا 2" اسمه إلى "فولسموسه للملاكمة"، وواصل أنشطته في نفس القاعات التي كان يستخدمها كل من "BK99" و"أولمبيا 2".
كان مَن اتّخذ مبادرة تأسيس النادي الجديد شهباز أسلام والملاكم السابق جان دو يوهانسن، الذي قام بعد توقّفه مِهنياً بالكثير من أجل الترويج للملاكمة في جزيرة فون وتقوية مختلف أندية الملاكمة. قام شهباز أسلام بالاتّصال بي وسألني ما إذا كنت أرغب بالعمل كمدرّب للنادي. كنت حينها قد عدت لتوّي إلى الدنمارك بعد إقامتي في فلسطين، وقد ابتعدت عن رياضة الملاكمة لمدّة ثلاث سنوات، ولكنّي قبلت بالعرض شاكراً. ومنذ ذلك الحين شاركت مع مدرّبَيْن آخرَين في التدريب بالنادي، وقد سار التعاون في ما بيننا بشكل جيّد جدّاً. لسوء الحظ، قرّرت بلدية أودنسه - أو الجزء التابع للبلدية الذي يسمّى Ungnord ــ عدم الاستمرار في التعاون الذي كان قائما بين "أولمبيا 2" و"فولسموسه للملاكمة". ولم يتمّ تقديم أيّ تفسير للقرار على الإطلاق، ولكن من الواضح أن بلدية أودنسه كانت ضدّ انفصال "فولسموسه للملاكمة" عن "أولمبيا". هذا يعني، من بين أمورٍ أُخرى، توقّف بلدية أودنسه عن دفع مقابل الساعات القليلة للمدرّبَيْن.
لم أكن الوحيد في فولسموسه الذي أسعدته الملاكمة إلى أقصى حدّ
كان القرار مؤسفاً، لكننا عقدنا العزم على مواصلة العمل، واليوم يُدار "فولسموسه للملاكمة" بجهود تطوّعية 100٪. وهذا يعني أيضاً أن النادي لم يعد جزءاً من المدرسة ضمن اتفاقية اليوم المدرسي الكامل، لذا يتعيّن على الشباب اليوم الانتساب إلى النادي إذا أرادوا خوض تجربة هذه الرياضة. من ناحية أخرى، فقد نجح النادي ــ بعد عمل شاقٍّ ومضنٍ ــ في أن يصبح جزءًا من Get2Sport، وهو مشروع تابع لـ"رابطة الدنمارك للرياضة"، والذي يعمل على تمتين الاندماج من خلال الرياضة. Get2Sport يدعم ويُرشد نادي الملاكمة، وفي نفس الوقت يقدّم الإعانات المالية والإرشادات التنظيمية.
لدى "فولسموسه للملاكمة" حالياً 65 عضواً يدفعون بدلاً عن اشتراكهم، ومن بينهم 15 من الملاكمين النشطين. خمسة من هؤلاء أعضاء من ضمن المنتخب الوطني الدنماركي.
لستُ الوحيد في فولسموسه الذي أسعدته الملاكمة إلى أقصى حدّ ومكّنته من تحقيق نتائج ملموسة للمنطقة. هناك عددٌ من أكثر الملاكمين تفوّقاً، وهُم: شهباز أسلام، إبراهيم شحادة، وعبيدة عراقي، وعلي عزيز التميمي، وإلياس وريش. يضمّ "فولسموسه للملاكمة" ما مجموعه 46 ملاكماً، منهم مَن هم أعضاء في المنتخب الوطني، وفي نفس الوقت أحدُ مدرّبي النادي، شهباز أسلام، هو أيضاً مدرّب المنتخب الوطني للناشئة.
شارك الملاكمون من فولسموسه ستّ مرّات في "بطولة الشمال"، وتسع مرّات في "بطولة أوروبا"، وثلاث مرّات في كأس العالم. لدى "فولسموسه للملاكمة"، اليوم، أكبر عدد من الملاكمين المنتمين إلى المنتخب الوطني في الدنمارك ــ بمجموع خمسة ــ وكان أكبر إنجاز حقّقه هو الميدالية الفضّية التي انتزعتها إحدى أهمّ المواهب الكبرى في "فولسموسه": إلياس وريش، الذي حصل عليها في "بطولة أوروبا" لمستوى U15، التي عُقدت في كرواتيا صيف 2016.
وبعبارة أخرى، من الجدير بالاهتمام أن نرى كيف استطاعت فولسموسه، كمنطقة، أن تحتضن وتقدّم أفضل الملاكمين في الدنمارك، من الذين حقّقوا أفضل النتائج مرّةً تلو المرّة في المشهد العالمي للملاكمة. ولذلك، فليس من الغريب بالنسبة إلى شباب المناطق السكنية الأُخرى، الفقيرة والمهمّشة اجتماعياً، أن تحقّق نجاحاً في هذه الرياضة بين فترةٍ وأخرى.
كان ذلك قد حصل، على سبيل المثال، عند مطلع الألفية الجديدة، حين تمكّن جيل من الملاكمين الموهوبين الكبار من منطقة باربراند في أوهوس من تحقيق نجاح ساحق - أسماء كبيرة مثل جاجر عبدالله، فارمان عبدالله، رضا زمزم، أحمد قدور، مارسيل طابجة وشادي عبدالله.
قد يمثّل كلّ هذا تعبيراً عن ظاهرة معروفة في العديد من البلدان: فعلى سبيل المثال، هيمنت الطبقة الدنيا، الفقيرة، من الأميركيين من أصل أفريقي على رياضة الملاكمة في الولايات المتّحدة طوال الخمسينيات والعقود التي أعقبتها، حيث كان البطل تلو الآخر من جذور أفروأميركية. وفي فرنسا، سيطر الشباب ذوو الأصول الجزائرية والمغربية على الملاكمة الفرنسية لسنوات عديدة، إن كان على مستوى النوادي أو المنتخب الوطني.
* ترجمة عن الدنماركية: دُنى غالي