أخيراً حصلتُ على "تصريح" بالذهاب إلى القدس غداً. لقد حجزتُ موعد مقابلة التأشيرة منذ أكثر من شهر.
رغم أنّ اليوم الثلاثاء، أعني منتصف الأسبوع، إلّا أنّ شاطئ البحر يكتظّ بالمُصطافين، معظمهم خرجوا في رحلاتٍ عائلية، كالمعتاد. حاولت السباحةَ قبل الغروب بساعة رفقة أصدقائي، إلّا أنّ قاع البحر، خاصة قرب الشاطئ، مفروشٌ بالصخور الناتئة. ما زلنا في شهر يونيو/حزيران، ومن المتوقّع أن تَطمر الرمال الصخور خلال أسابيع قليلة. ربما كنتُ المتضرّر الأكبر من وجود الصخور، فأنا لا أعرف السباحة، رغم أنّني وُلدت في مخيّم الشاطئ للاجئين. علاقتي مع البحر هي علاقة من يلجأ إليه، لا من يندمج فيه بجسده وروحه، فأنا أخاف أن تطمرني المياه وتجرحني الأمواج بسيفها الأبيض المصقول دوماً.
اضطررت وقتها، مستعيناً بأصابع قدميَّ، للبحث عن الصخور وتجنُّبها. ربّما فشلت كثيراً وبقيت واقفاً مكاني، بينما رفقائي كانوا قد تجاوزوا مئات الأمتار من الماء. الماء؟ هل يبقى الماء ماءً إذا خبَّأ تحت ردائه فكّ الموت ومشرط الغرق؟
تناولتُ العشاء رفقة أصدقائي، وهم زملائي في مهنة التدريس. لقد كانت السنةُ الدراسية هذه متطاولةً، خاصة بعد انقطاع نظام التدريس الطبيعي لمدّة عامين بسبب وباء كوفيد 19، بالإضافة إلى بدء العام الدراسي مبكّراً لتعويض الفاقد التعليمي. عندما جاءني الاتصال ليلاً، قفزتُ في الهواء، ربّما لولا سقفُ الخيمة لاصطدمت بالنجم القريب في السماء. كان أوّل ما تكلّم به بعض الأصدقاء، "شو بدك تحلينا؟" لقد أصبحت أخبارنا السعيدة مظروفاً يضع فيه الأصدقاء والأهل ما تجود به انفعالاتنا الأولى.
تنتابني حالة من التوتر الشديد قبل الذهاب إلى موعدٍ مهمّ يتطلّب منّي اصطحاب وثائق ثبوتية، كبطاقة الهوية، وجواز السفر، وتأكيد موعد المقابلة، وإيصال الدفع، وصور شخصية، إلخ.
قبل مغادرة غرفتي، أتفحّص الوثائق وأعدُّها مرّات، كمن يتفقّد مبلغاً كبيراً استخرجه من الصرّاف الآلي للتوّ. أفعلُ الأمر نفسه قبل دخول السيارة وداخلها، عندما أهمُّ بالخروج من السيارة، أنظر ورائي، لربّما سقط شيءٌ سهواً. حتى أنني أحياناً أطلب من السائق أن يخفض صوت المذياع كلياً، وكأن أشعة الراديو ستستنشق الأوراق وتلوكُني معها، قبل أن تقذفني من نافذة السيارة.
لن يكون من الغريب مشاهدة المئات من المسافرين عبر "معبر إيرز"، الذي يربط بين غزّة و"إسرائيل". هؤلاء المسافرون ليسوا مرضى كما كان الحال لسنوات عديدة مضت، بل عمّالٌ وتجّار يعملون في الداخل أو في الضفة الغربية.
الساعة تشير إلى السابعة والنصف صباحاً، وصلت صالة "معبر إيرز" الأُولى، والتي يديرها موظفّون وشرطة يتبعون لحكومة غزّة. سلّمت بطاقة الهوية لضابط شرطة، الذي بدوره وجّهني إلى غرفة 20، والتي عرفت لاحقاً أنها للأمن الداخلي في حكومة غزّة. مصطلح "الأمن الداخلي" هنا في غزة له ارتباط سلبي، حيث يتمّ التحقيق مع المواطنين وأحياناً احتجازهم لساعات وأيام.
عندما اقتربتُ من باب الغرفة، التي بدا لي أنني أوّل الواصلين إليها، توجّه نحوي شابٌّ يبدو في مقتبل العشرين. عيناه تبرقان باللون الأخضر وشعره ذهبي، طلب منّي الانتظار ريثما يحضر مفتاح الغرفة. شعرتُ كمن وصل إلى المدرسة مبكّراً قبل الآذِن.
لماذا لم أعترض؟ لماذا لم أصرخ في وجوههم؟
خلال خمس دقائق، جلس بجانبي شابٌّ في الخامسة والثلاثين من خربة العدس في رفح. يرتدي بذلة يُخيّل لي أنّه ارتداها في زفافه أو زفاف قريبٍ له حديثاً. أول سؤال وجهته له كان نوع الفيزا التي يحاول التقديم لها. ربّما كان ذلك أهم عندي من اسمه أو مكان سكنه. أخبرني أنه ينوي زيارة بعض أقاربه في ميشيغان والتجوّل في الولايات المتّحدة للترويح عن النفس. أخبرني أن هذه هي المرّة الأُولى التي يسافر فيها خارج غزّة منذ عشرين سنة.
دعانا شابُّ الأمن الداخلي للجلوس في الغرفة وتقديم بطاقات الهوية. بعد ثلاث دقائق، دخل رجل كبير في السن الغرفة، تتبعه زوجته. وقفتُ من على مقعدي وطلبتُ من أحدهما الجلوس مكاني. وقف الشاب الآخر، داعياً المرأة للجلوس. جلس الرجل، بينما ظلّت زوجته واقفة. ابتسمتْ لنا على استحياء. أصررت على أن تجلس. همّ شاب الأمن الداخلي وأحضر كراسي أُخرى.
اتّضح لي لاحقاً أن الرجل الكبير وزوجته يقصدون الذهاب إلى السفارة اليونانية في القدس وأنّ زوجته يونانية، لذلك لم تتكلّم معنا أو تشكرنا على عرضنا عليها بالجلوس. (عندما كنت في الولايات المتحدة عام 2020، لم يكن هناك سفارة فلسطينية فيها، اضطررت للاتصال بالسفارة في كندا، وفي النهاية لم يفيدوني بخصوص استفساري).
لا أعرف كيف حدث هذا، لكنّ الشاب من الأمن الداخلي الذي جلستُ معه هو نفسه شقيق أحد التلاميذ الذين درّستهم في المدرسة هذا العام. كنتُ قد تواصلت مع وليّ أمر التلميذ بخصوص شقيقه بسبب سوء سلوكه وتدنّي تحصيله، فقام شقيقه، شابّ الأمن الداخلي بالردّ. كانت مصادفة خفّفت عنّي توتّر السفَر لأوّل مرّة عبر "معبر إيرز".
غادرت صالة المعبر إلى الصالة التابعة للسُّلطة الفلسطينية، الساعة الثامنة والنصف، كان معظم المسافرين من العمّال. إجراءاتهم سهلة وسريعة، حيث إن أسماءهم موجودة في نظام السفر وتنسيق دخولهم "إسرائيل" جاهز. ما عليهم سوى تسجيل الحضور وركوب الحافلة. أمّا نحن المتوجّهون إلى السفارة الأميركية في القدس، فقد اضطرَرنا للانتظار عدّة ساعات حتى تجهز إجراءات عبورنا.
قاربت الساعةُ الحادية عشرة والنصف. قضيت بعض الوقت داخل الصالة بالنظر عبر النافذة نحو الجدار العازل الذي يفصل غزّة عن الأراضي المحتلّة أو ما يسمى بـ"إسرائيل". ليس من السهل الاقتراب ومشاهدة جزء ممّا داومتَ على السَّماع عنه طيلة حياتك. أنت الآن، وبعد دقائق، ستصبح داخله. ستصبح على الجهة "الأُخرى" من الحكاية.
عدد المسافرين من غزّة إلى القدس بغرض زيارة السفارات الأجنبية هو ستة عشر. شخصان سيزوران السفارة اليونانية، وشخص واحد السفارة الكندية، أما البقية، بمن فيهم أنا، فالسفارة الأميركية. كان بيننا شابٌّ وزوجته وطفلاهما، امرأة كبيرة وابنتها، بالإضافة إلى شابين تحدَّثتُ معهما عن السفر وخبرتي السابقة في الولايات المتّحدة كشاعر زائر ومن ثم كطالب ماجستير.
رغم أنّ المرأة كبيرة في السن، إلّا أنّها بدت في الأربعين من عمرها. تضع أحمر الشفاه، وشعرها ذهبي لامع، وصندلها الأنيق يلفت الانتباه. تجلس بجانبها فتاة من سنّي، شعرها الأسود منسدلٌ على جسدها النحيف الفاتن، بينما أظافر يدها تبرق في الصالة الكبيرة.
لا أعرف من هو صاحب القرار هنا، كلهم خلف الزجاج
كنت سعيداً جدّاً ذلك اليوم. أخبرت الشابين أن أمر حصولي على التأشيرة مسألة وقت. كنت أشعر بالقلق تجاههما، فهما يودّان السفر إلى الولايات المتحدة بهدف الزيارة، أي ليس لديهما ارتباط قوي مثلي يضمن لهما دخول أميركا.
ما بين الفينة والأُخرى، كنت أقرأ من جهازي اللوحي جزءاً من رواية "أميركا" للكاتب اللبناني ربيع جابر. قرأت الصفحات الأولى وتخيلت نفسي أنا البطلة، ولكن على بعد خطوات من الحصول على التأشيرة. لقد سبقتني الرواية في دخول أميركا، بحيث لم يتطرّق الروائي إلى تفاصيل حصول مارثا على التأشيرة.
بدأ أحدُ موظّفي الشؤون المدنية الفلسطينية بالنداء على زائري السفارات. استلمت ورقة التنسيق. لغة الوثيقة عِبرية، مع بعض الكلمات بالترجمة العربية. عندما صعدنا الحافلة الصغيرة، لاحظت فتاة أن الوثيقة خاصتها مكتوب عليها "مسموح رغم الحظر".
تطوّعت المرأة الكبيرة بإخبارنا وطمأنتنا بأنّ من مكتوب على تصريحه هذه العبارة يعني أنه كان قد تقدّم بطلب تصريح ورُفض، لكن عُدّل الطلب وقُبل. "يعني أنت الآن مرضي عنك".
تفحّصت ورقتي ووجدت نفس العبارة تتربّع عليها. اطمأننت، رغم أن القلق لم ينجلِ من ذهني تماماً.
كانت المسافة بين الصالة الفلسطينية ونقطة المعبر الإسرائيلية لا تتعدّى الثلاث دقائق بالحافلة. نزلنا من الحافلة، ودفعنا ثمن التوصيلة: ثلاثة شيكيلات، بالإضافة إلى مئة وخمسين شيكلاً رسوم الحافلة التي ستقلُّنا من نقطة المعبر الإسرائيلي إلى السفارة ذهاباً وإياباً.
آخر شيء لاحظته قبل الدخول إلى نقطة التفتيش هو الجدار الإسمنتي الضخم الذي يحيط بالمكان بلا نهاية. برج مراقبة عسكري يطل على مزارعين في الجهة الفلسطينية. بدا لي أنهم يحصدون البطاطا أو الجزر. كان البرج العسكري يطلق قنابل دخان تجاههم. يبدو أن هناك خطّاً وهمياً في الهواء يمنع المزارعين من الاقتراب منه حتى بنفخ هواء الزفير تجاهه. (الزفير يمكن أن يكون ملوِّثاً، ولا يجوز نفثه تجاه دولة حديثة).
عبرنا نقطة التفتيش. بدأ رجل الأمن يلقي بالتعليمات والمحظورات، يتكلّم العبرية والعربية بطلاقة. استنتجت أنه من عرب الداخل.
"أي وحدة معها مكياجات أو عطور، بسرعة ترميها بالزبالة".
"أي واحد معو بطارية شحن، فلاش، يرميه".
"مية ارميها".
"آيباد ممنوع".
ماذا؟ آيباد ممنوع؟ لم يخبرني أحد بذلك...
"أنا معي آيباد".
"شو حكيت؟"
"جهاز آيباد!"
بدأ الجميع بالنظر إليّ. توترت.
رفع الرجل سمّاعة اللّاسلكي المعلّقة بالباب الحديدي وبدأ بالحديث بعصبية باللغة العبرية. الكلمة الوحيدة التي التقطتُها كانت "آيباد".
بدأ الرجل يسبُّ على الشؤون المدنية وغبائهم.
اقترب مني رجل الشؤون المدنية الذي يرافقنا في رحلتنا بنظرة شبه غاضبة وبائسة، بادلته بنظرة إحراج وبادرت بالقول إنني لم أكن أعلم بعدم السماح باصطحاب الجهاز. كان هدفي الوحيد هو القراءة خلال الطريق وساعات الانتظار التي توقّعتها. ولا أخفي رغبتي بالتصوير خلال الرحلة، فهذه رحلة ربّما لا تتكرّر لي خلال سنوات طويلة.
بقيتُ جالساً على المقعد كلوح ثلج ينتظر أن تذيبه الشمس
اتّضح لي بأنه يتوجّب عليّ الرجوع إلى الصالة الفلسطينية وتسليم الجهاز قبل العودة إلى نقطة المعبر الإسرائيلية، اضطرّرت لانتظار قدوم حافلة تقلُّ عمّالاً فلسطينيين حتى تُرجعني إلى الصالة.
وجّهني شخصٌ ما إلى غرفة خارج الصالة يجلس فيها ضابط شرطة يعمل في حكومة غزة. أخبرتُه بما حصل. كتب اسمي على شريط ورقي. سمّى لي شخصاً من عائلتي وسألني إذا كنت أعرفه. أخبرته أنه من العائلة لكنّني لا تربطني به علاقة شخصية، خاصة بأن أبي انتقل بنا إلى مدينة تبعد عن المخيم عندما كنا صغاراً. أحسستُ أنني سأقضي وقتاً أتبادل الكلام مع الضابط المهذّب، نظرتُ إلى ساعتي. ففَهِم من ذلك استعجالي.
أسرعتُ الخُطا نحو حافلة ستنطلق بعد قليل نحو نقطة المعبر الإسرائيلي.
لقد قضيتُ وقتاً لا طائل فيه من التنقّل بين فلسطين و"إسرائيل". كنت في المنتصف، كثقبٍ تركه الفرجار على ورقة رسم أحدٌ عليها دائرةً غير ضرورية، ربما ليُسلّي وقت فراغه. لا يدري ذلك الأحد أنّ شيئاً، ربّما أنا أو ذبابة ما، يمكن أن يقع أسيراً لخطوطٍ رسمها آخرون، كمثل الحدود التي تفصل بين بلدان العالم.
نزلتُ من الحافلة، ثمّ دخلتُ جهاز الفحص الإلكتروني. لم يكن شيئاً جديداً عليّ، فقد دخلتُ مطاراتٍ عدّة سواء في القاهرة أو عمّان أو خلال سفري من وإلى الولايات المتّحدة قبل ثلاثة أعوام.
نأتي للملابس، فإني يومها لم أرتدِ حزاماً، بينما حرصت على لبس حذاءٍ رياضيٍ سهل اللبس والخلع. وضعتُ أغراضي في صندوق بلاستيكي ومكثت أنتظر الصندوق وما يحتوي: الحقيبة بما تتضمّنها من أوراق، وبطاقة الهوية، وساعة اليد، والقلم، والعلكة.
سقف الصالة عالٍ جدّاً وأستطيع رؤية شبابٍ وبناتٍ في المبنى الرئيسي على حواسيبهم. ربما يتفحّصون الأغراض التي نصطحبها معنا؟ ربما يراقبون حركتنا ونحن عُزّلٌ إلّا من أجسادنا وأرواحنا المرتعشة؟ المرتعشة؟ نعم.
لقد رأيتُ ضابطين شابّين يتجوّلان في باحة الصالة يقتربان منّي، على كتفيهما بندقيّتان، لا أعتقد أنني شاهدت مثلهما في حياتي. ولا حتى في أفلام هوليود.
أيبقى الماء ماءً إذا خبَّأ فَكّ الموت ومشرط الغرق؟
من شدّة انفعالي، همستُ لرجل كبير يمشي جانبي حافي القدمين "على شو كلّ هالأسلحة؟ إحنا في ساحة حرب".
لكنّ جوابي على استنكاري جاء أسرع ربما من دخول صوتي في أذن الرجل، "طبعاً هذا استعراض قوّة. هما يقولان لنا، نحن هنا بالسلاح حتى وأنت خارج غزة".
مضى بعض الوقت قبل أن تصل الصناديق على الحزام الحديدي الدائر (ها نحن نعود مرّة أُخرى إلى الدوائر). كان صندوقي أوّل الواصلين. أخذت كلّ ما فيه، عدا العلكة وورقة محارم، ورحتُ أرتدي الحذاء.
أُلاحظ زملائي وهم يسلّمون أوراقهم وبطاقات الهوية، بينما ألبس أنا حذائي الرمادي وأتفقّد أوراقي. (اشتريتُ حذاء الأديداس هذا عندما كنتُ في أميركا بخمسين دولاراً. كنتُ ألبسه وأقود درّاجتي الهوائية إلى الجامعة أو السوق).
تطغى الحماسةُ عليّ، وأنا أشاهد بعض الأشخاص يجتازون بوّابة الكاتبين نحو بوابة الخروج. أنا قريب جداً من الوصول إلى السفارة، لكنّني ما زلتُ في المنتصف، ليس في غزّة، ليس في القدس، ولكن في صالة المعبر. يمكن في لحظة أن يقطع أحدهم الحبل وأهوي في غزة مكسور الجناحين بدون أن أصل القدس وأُقابَل للتأشيرة. ويمكن بكلمة أن يركلني أحدهم للأعلى، أعانق القدس، وأشتمُّ رائحتها التي غمّستُ خبزاً كثيراً في قصائد وحكايات عنها.
بينما أهبّ للوقوف، إذا بالفتاة الجميلة يُطلَب منها الرجوع نحو المقاعد والانتظار، بينما والدتُها قد اجتازتِ البوّابة.
"بس أنا قبل كم يوم كنت في الضفّة وعبرت إيرز". كانت تقول لي وعيناها منكسرتان.
"بسيطة، ممكن بيدقّقوا في شغلة". طمأنتُها.
أشار لي موظّف الشؤون المدنية بالتوجّه نحو الكاونتر الزجاجي الذي تجلس داخله فتاةٌ حنطية البشرة، وأُخرى شقراء الشعر. تتوسّطهما فتاة سمراء يبدو أنها مستجدّة تستفيد من خبرتهما. (خبرة ماذا؟ أن تكون مُختبِئاً في كاونتر زجاجي وتعطي إشارة بيدك تُدخِل هذا وتُرجِع ذاك؟ تبقى خبرة، حتى لو كانت الخبرة هي وجود نبتة صبّار في صحراء أريزونا. في النهاية عندها خبرة في الاستقرار في مكان واحد. لكن هل لديك قرار باعتراض قدرك؟ هذه نبتة صبّار وهذه فتاة تظهر لها معلومات على جهاز حاسوب تنقلها لك إمّا بالإيجاب وإمّا بالرفض).
في البهو الخلفي، تمرُّ في ما يبدو لي صِبيةٌ وفتيات دون العشرين في صف عسكري. (عسكرية؟ نعم، العسكرية هي إطاعة الأوامر. هي أن تكون شيئاً. أداة في يد أحدهم. أحدهم؟ نعم، شخص لا تراه غالباً). استعراضٌ آخر أمامنا.
قدّمتُ للفتاة الشقراء بطاقة الهوية وورقة التصريح. مضت خمسُ دقائق وأنا أنتظر. أعادت لي ورقة التصريح، وطلبت مني الجلوس، لم أسمعها جيّداً، هل حقاً طلبت مني الانتظار؟
ربّما تكلمت بالعبرية، أو العربية، أو الإنكليزية. لا يهمّ. المهم أنني لم أفهمها، لربما هي تعمّدت ذلك.
عدتُ للوراء، كانت الفتاة تجلسُ خلفي مباشرة. شعرت ببعض الراحة، لستُ الوحيد الذي طُلب منه الرجوع والانتظار. كنا أربعة، وكان اليوم الأربعاء، والأربعة هم من طُبع على ورقة تصريحهم "مسموح رغم الحظر".
مضت خمسُ دقائق. بدأت الموظّفة الشابة الإسرائيلية بمناداتنا. مناداتنا؟ أنا منهم؟
لا!
بقيتُ وحدي جالساً على المقعد. ازداد المِقعدُ الفضي برودةً. كأنني لوح ثلج ينتظر أن تأتي شمس وتذيبه ببطء.
أشار لي موظف الشؤون المدنية بيده اليسرى. اليسرى؟ لست متأكداً. أحتاج دقيقة لتخيُّل المشهد مرّة أُخرى. لا، كانت اليد اليمنى.
الدّرَج أقوى وأبعد مكان نلوذ فيه أثناء القصف
كان يضمُّ إصبع يده ويدعوني للتوجّه نحوه. (تتذكّر عندما يستدعيك مدرّس الرياضيات إلى اللوح، لتُجيبَ على مسألة حسابية عندما شاهدك وأنت تشاكس في الفصل؟). لكن لماذا هو من ينادي لي؟ هل هناك عطل في الميكروفون داخل الكاونتر الزجاجي؟ لا أظن، فقد كانت حركة يد الرجل سريعة، كما ينادي عليك شخص في البيت ويطلب منك إطفاء مشعل الغاز عندما يغلي الشاي على النار. تعرفون كيف يصبح لون وطعم الشاي عندما يغلي أكثر من اللازم؟
يدا الموظف بُنِّيتان، طبعاً أقل من بُنّية القهوة. هل لهذا علاقة بالموضوع؟ ربما. سأرى كلّ شيء داكناً لمدة طويلة عندما يخبرني الرجل، عندما اقتربت، كان يرتكز بيده اليمنى على الكاونتر الزجاجي، بأنّني غير مسموح لي بالعبور وأنّني يجب أن أرجع إلى غزة.
أنا من بين جميع زملائي. زملائي؟ كيف أصبحوا زملائي؟ أنا حتى لا أعرف أسماءهم ولا مُبتغى طلبهم للتأشيرة في سفارة القدس.
أخبرني أنّ جندياً سوف يأتي ليسلّمني ورقة وأرجع إلى غزة. جندي أم شرطي؟ لا أذكر. لم تكن أذناي تعملان بكامل كفاءتهما. سواء شرطي أم جندي، هل يُهمّ؟ في النهاية هو إسرائيلي ولا يراني سوى أنّني شيء يمكن تقديمه وتأخيره دون اعتراض.
صحيح! لماذا لم أعترض؟ لماذا لم أصرخ في وجوههم؟
لكن، وجه من يا مغفل؟ أنا لا أعرف من هو صاحب القرار هنا. كلهم خلف الزجاج.
هل نسيتَ الأسلحة في المكان؟
رجعتُ إلى الكرسي الفضي، وازداد توتري كما هو متوقّع. نظرتُ نحو بوّابة الخروج، كانت الأشجار تتمايل مع الهواء. شجرة تشبه النخيل، قصيرة. لم أرَ أيّ شخص من زملائي. لا، هم ليسوا زملائي، فقط عابرون بثياب الحظّ. الحظ؟ أنا أؤمن به، لكن ليس دائماً! مسألة مزاجية إذا سألتني.
شاشةُ عرضٍ مثبّتةٍ فوق الكاونتر الزجاجي تُظهر الأشخاص الداخلين وهم تحت التفتيش الإلكتروني. كلُّ شيء مراقب، حتى أنت مسموح لك أن تشاهد أبناء جلدتك وهم يُفتَّشون، الأمر عام.
أذكر جيّداً أنني كنتُ منشرح الصدر عندما دخلتُ الصالة التابعة للسلطة الفلسطينية، ومن ثم عندما ركبتُ الحافلة، وعبرتُ الصالة الإسرائيلية، التفاؤل غمرني، أنا قريبٌ جداً. (قريبٌ من ماذا بالضبط؟)
لكن ليس بعدما أخبرني الرجل بخبر رفض استمرار رحلتي.
هل تعرف شعور أن تكون في منتصف البحر، لا تعرف في أيّ جهة أنت؟
هل تعرف شعور أن تأتي سفينة قربك أو طائرة إنقاذ؟ تبدأ تنادي عليهم، بينما البحر يُلقي بيده المائية حفنةً من ماء في فمك، بينما السفينة تهشم وجهك في طريقها، أو الطائرة تُلقي بحمولة زائدة وتقع عليك؟
هذا ما حصل معي عندما بدأت جندية - أم شرطية؟ ما الفرق؟ - داخل الكاونتر الزجاجي بالإشارة لي.
لا أريد أن أبدو كطائرٍ بلّله مطرٌ مفاجئٌ في صيفٍ قائظ
هل حقاً غيّروا رأيهم؟ هل سيسمحون لي بالعبور والالتحاق بزملائي؟ زملائي؟ ربّما أستطيع الآن تسميتهم بزملائي. هناك أمل، والأمل يُسهِّل التعامل مع الكلمات. (أتذكرون قصّة الأعرابي الذي قال عندما وجد ناقته: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك"؟) أخبرتك أنها مسألة مزاجية.
قفزتُ كما يقفز الضفدع من المقلاة عندما تلقيه في إناء ماءٍ ساخن. (الماء والبحر؟ ما القصة؟)
طلبتْ مني الشرطية - الجندية ورقةَ التصريح. لعبتْ بيديها على لوحة مفاتيح الحاسوب، هل يغيرون رأيهم على الحاسوب؟ أعطتني ورقة بيضاء مكتوب عليها باللغة العبرية أشياء كثيرة. لكن لماذا العبرية؟ هل هي لغتي؟ أين العربية أو الإنكليزية.
حاولت أن أتواصل بالإنكليزية، لكنهم كانوا يتكلمون كلمات مقتضبة بالعبرية، أو ربما عربية غير مفهومة. تقدّم جندي - شرطي وأخبرني بالعربية أنني يجب أن أعود أدراجي إلى غزة الآن. (أدراجي هذه من عندي. الدَّرج الوحيد الذي يعرفونه هم هو درج الطائرة عندما يسافرون في الإجازات. نحن؟ نعرف الدّرَج عندما نلوذ فيه وقت القصف، فهو أقوى وأبعد مكان خلال القصف).
عدتُ. جلست قليلاً ألملم أغراضي، أو ربّما خيبتي.
"نفعل كما يفعل العاطلون عن العمل:
نربّي الأمل!"
ماذا إن كنّا منهمكين بتقليم أظافر الألم؟
تظاهرتُ بأنني غير مبالٍ بما حصل. لا أريد أن أبدو كطائرٍ بلّله مطرٌ مفاجئٌ في صيفٍ قائظ.
سأضغط على جناحيَّ الثقيلين وأطيرُ بمستوىً ثابت، رغم أنّ الجميع في الأسفل ينتظرون أن أهبط ولو قليلاً لينهشوا من جسدي. فليُبقوا أفواهَهم مفتوحةً بلا طائل. فعن قريب سيملأُ الغبارُ أسنانَهم وتسقط في الوحل تحتهم، أما أفواههم فسوف تسدُّها رمال الصحراء التي فصلوا بها بيننا وبين بلادنا.
مكثتُ نصف ساعة وأنا أبحث عن جهاز الآيباد... وكلُّ موظف يدلُّني على الآخر.
بطاقة
شاعر وكاتب فلسطيني من مواليد غزّة عام 1992، يكتب باللّغتين العربية والإنكليزية. أسّس عام 2017 "مكتبة إدوارد سعيد العامّة" في غزّة. نشر قصائده في مجلّات شعرية متخصّصة، وكان شاعراً زائراً في قسم الأدب المقارن بـ"جامعة هارفارد" الأميركية بين عامَيْ 2019 و2020. صدرت مجموعته الشعرية الأولى بالإنكليزية مؤخّراً عن دار نشر City Lights في سان فرنسيسكو بعنوان "أشياء قد تجدها مخبّأةً في أُذني"، وتتناول قصائدها الحياة في غزة تحت الاحتلال والحصار، وطفولة الشاعر في المخيّم وعلاقته بجدّه ومدينة يافا التي هُجّرت منها عائلته. بحسب "نيويورك تايمز"، فالشاعر "يقارن خلال ديوانه الأول البارع بين مشاهد من العنف السياسي وجمال الطبيعة من حوله"، بينما تكتب نعومي شهاب ناي على غلاف المجموعة الخلفي: "قصائد مصعب تحطّم قلبي وتوقظه في الوقت نفسه. أشعر أنني كنت أنتظر عمله طوال حياتي".