انقسمت جهود المؤرّخ والأديب السوري شاكر مصطفى (1921 - 1997)، الذي تمرّ هذا العام مائة سنة على ميلاده، إلى حقلين معرفيّين؛ أحدهما كان مجالَ تخصّصهِ وعملهِ، والآخر كان مجال هوايتهِ وشغفه. في التاريخ والأدب لمع نجم مصطفى؛ إذ اختير ضمن أبرز كُتّاب سورية في استفتاء جريدة "النُقَّاد" في عام 1954، إلى جانب عبد السلام العجيلي وفؤاد الشايب. وقد تجاوَز عدد كتبه المطبوعة الأربعين كتاباً، منها ما يتألّف من مجلّدات عديدة، إلى جانب مئات المقالات والأبحاث.
حصل مصطفى على الإجازة في التاريخ من جامعة القاهرة عام 1945، وعلى الدكتوراه من جامعة جنيف عام 1970، وقد تأخّر في الحصول عليها لاشتغالهِ في السياسة؛ التي كانت أولوية لدى أبناء جيلهِ. شارك في تأسيس "رابطة الكتّاب العرب"، وسُمّي مستشاراً ثقافياً في السفارة السورية بالقاهرة عام 1956، وسُمّي وزيراً مفوضاً في العاصمة الكولومبية بوغوتا عام 1958، وقنصلاً عاماً في البرازيل حتى عام 1963، كما عُيّن وزيراً للإعلام حتى عام 1966، في فترة شغل فيها مثقّفون سوريون حقائبَ وزارية، مثل: عبد الله عبد الدايم، وعبد السلام العجيلي. ثمّ بعد ذلك سافر إلى الكويت لمدّة خمسة وعشرين عاماً.
لا تخلو أفكار مصطفى، الذي يَعدُّ نفسهُ بعثيّاً، من نقدٍ لسلوكِ "البعث"؛ فاعتبر أنّ الحزب في بدايتهِ كان يفصل السياسة عن العسكريّين، ولو استمر على ذلك المبدأ، لاختلفَ وضع المنطقة عمّا كان عليه؛ لو أعطى العسكريون ما لقيصر لقيصرَ، وتركوا السياسيّين يعملون عملهم، بدلاً من تغوِّلهم الذي طاول الحياة السياسية والمدنية. ويمكن فهم الرجل العروبي في موقفين اثنين: فرحتهُ بالوحدة بين سورية ومصر، وكان آنذاك قائماً بأعمال سفارة بلادهِ في الخرطوم - مع أنّ رئيس الوزراء السوداني آنذاك، عبد الله خليل، حذّره من أنّ السوريين سوف يندمون، "لأنّ المصريّين لا يفهمون إلّا أنّهم أسياد" -، وبكاؤه لخبر غزو العراق للكويت، وكان حينها يشتكي من أمراض أقعدتهُ بدمشق، فضلاً عن الوضع العام في الكويت؛ ما أعاق عودتهُ إلى البلد الذي أسهم بجدارة في خططهِ الثقافيّة التي رفدت الثقافة العربية برمّتها.
اعتَبر التاريخ مجالاً شاملاً وجامعاً للثقافة الإنسانية
ساهم مصطفى في إصدار مجلّة "الثقافة العالمية" في الكويت، واختارته "المنظّمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" أميناً عامّاً للجنة إعداد الخطّة الشاملة للثقافة العربية، وقد قام بعمله ذاك مدة أربع سنوات (1982 - 1985)، وصدرت الخطّة في ستّة مجلّدات، وقد أشرف على مشروعات قومية ثقافية متنوّعة. وكان عضواً في هيئة تحرير سلسلة "عالم المعرفة" في الكويت، وقد عُيّن عميداً لكلية الآداب في جامعة الكويت، ومستشاراً في الديوان الأميري.
لشاكر مصطفى إسهاماتهُ النقديّة في حقل الأدب، ولا سيما كتاباه الرائدان في مجاليهما: "محاضرات عن القصّة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية" (1958) و"الأدب في البرازيل" (1986). اعتبَر مصطفى، في الكتاب الأوّل، أنّ التكوينات الأولى لظهور القصّة في سورية تعود إلى عام 1860، بعدما مَيّزها عن المدارس النقدية الغربية. واعتبر أنَّ نشأة القصة السورية، بشكلها الفنّي، تعود إلى فترة ما بين الحربين. وقد رأى أنّ أول قصّة فنية سورية تتمثّل تجارب ميشيل عفلق المنشورة عام 1930.
للكتاب أهمية تاريخية؛ إذ اعتمد عليه كلُّ من ألّف بعده في هذا المجال. أمّا عن مؤلفّه الثاني؛ فقد استفاد من تعيينه سفيراً لبلادهِ في البرازيل وإقامته هناك في الاطّلاع على الأدب والثقافة في أميركا اللاتينية، ويُعدّ من أوائل الكتب في مجالهِ أيضاً؛ إذ ذكر في مقدّمته أنّه نشرَ سابقاً جزءاً منه عام 1964 عن وزارة الإرشاد القومي. ويتوقّف مصطفى في كتابهِ هذا عند الموقف من التراث لدى البرازيليين، فهم يرفضون التراث الأوروبي الذي كوّن ثقافتهم وأدبهم، ويحاولون الرجوع إلى الأصول التي تسبق الكشف البرتغالي. كأنّما في تحليلهِ للفنون، أراد أن يستعيد "العالَمُ الثالث" شيئاً من اعتدادهِ بتراثهِ في الفنون والثقافة؛ إنّه يبحثُ عن الهوية القومية، ويحضُّ على تصوير إسهاماتها في الآداب الإنسانيّة.
انتقد تغوُّل العسكر على الحياة السياسية والمدنية في سورية
في التأليف لهُ كتبٌ عديدة أيضاً، وقد كتبَ نزار قباني مقدّمة كتابهِ "بيني وبينك"، وتشي كلمات المقدّمة بالصورة التي كان الآخرون يقرؤون من خلالها شاكر مصطفى، ومن كلمات الشاعر: "كلّما قرأت قطعة لشاكر تذكّرتُ رقص الباليه دون أي فن آخر... إنّ شاكر لا يرمي حروفه رمياً على خشبة المسرح. كلّ فكرة لديه تعرف موضعها، وكلّ نقطة، كلّ فاصلة تعي دورها وتأخذ مكانها المرسوم لها. لا فوضى، ولا مصادفة في أدب شاكر مصطفى".
يتابع قباني حديثه عن صاحب "حضارة الطين": "وبعد، فهذا سفير جمال يخرج من غابات بلادي بمئزر قدّيس وعصا ساحر. الكلمة الطيّبة لا تسقط من فمهِ لأنّها جزءٌ من فمهِ، والزهور البرية الغريبة تتمنّى لو صارت زاداً في سلّته". تُغْني كلمات قباني بالإيجاز والوضوح والسحر، وصفَ عالمِ شاكر مصطفى.
يُبرِّر المؤرِّخ اختيارهُ للتاريخ، باعتبارهِ مجال الاهتمام الشامل والجامع للأدب والفلسفة مع الثقافة الإنسانية عموماً، وقد لَقَّبهُ بعض النّقاد بمؤرّخ الأدباء وأديب المؤرّخين. ويَعتبر مصطفى أنّ السؤال الأبرز الذي يواجه المؤرّخين اليوم؛ في ظل الفيضان في المادة التاريخية الذي أتاحتهُ العلوم والأبحاث والتقنيات الجديدة، يتمحور حول "كيفية احتواء الزمن التاريخي وكيفية التعبير عنه". وعليهِ، وجد أنّ العمل في هذا المجال يكتسب الأهمية من المنهج الذي يعمل بهِ الباحث. اجتهد مصطفى في البحث عن المنسيّين والمظلومين والمجهولين في التاريخ، وقدّم تحليلهُ للمادة التاريخية من منظورٍ إنسانيّ شامل. ومن أبرز مساهماتهِ في هذا المجال "التاريخ العربي والمؤرّخون" وصدر في ستّة مجلّدات، وسلسلة "أوراق من التاريخ".
من أعماله: "بيني وبينك" (1955)، و"حضارة الطين" (1955)، و"في التاريخ العباسي" (1957)، و"محاضرات عن القصة في سورية حتى الحرب العالمية الثانية" (1958)، و"معنى السلام عند إسرائيل: ماذا تريد إسرائيل" (1969)، و"الدليل في التاريخ العربي الإسلامي" (1986)، و"الأدب في البرازيل" (1986)، و"من الغزو الصليبي إلى الغزو الصهيوني وبالعكس" (1987)، و"الأندلس في التاريخ" (1990)، و"المظلومون في التاريخ" (1996).