يُحيلنا اسم شبلي شميّل على مسلسل صوَرٍ يبدأ بالطبيب المولود في كفرشيما بلبنان (1850)، وممارس المهنة في مصر التي أمضى فيها معظم سنوات عمره، تليها صورة رجل العِلم، معرّف قرّاء العربية بفكر داروين وواضع مصطلح "النشوء والارتقاء"، ثم صورة المفكّر السياسي المدافع عن العلمانية والاشتراكية. لكنّ صورة الشاعر بقيَتْ في الظلّ. أساساً هو تجنّبَ فكرة الانتساب إلى الشعراء، برغم أنه نظم العديد من القصائد، ولم يحفل بجمعها أو نشرها في ديوان.
فُطر شميّل على الشعر منذ كان طالباً في "الجامعة الأميركية" ببيروت. زار قلعة بعلبك سنة 1870 فوقف مبهوتاً من عظمتها ودقّة صناعتها، وكتب بيتَيْن: "المرء يسعى أن يسير إلى الأما/مِ وليس يُحمد أن يسير القهقرى/ أمّا أنا لمّا رأيتُ بَعْلَبَكاً/ فوددتُ لو أنّي أسيرُ إلى الورا".
وكان شميّل صاحب آراء نقدية مهمّة في جوهر الشعر نستشفّ منها رؤية حداثية ما زالت صالحةً في عصرنا. رفضَ نهج الشعر الذي (في زمانه) أصبح "صناعةَ الذين لا صناعة لهم غير التزلّف للحُكّام، واستنداء أكُفِّ أصحاب المال (...) صناعة المتباكين لاستعطاف الحِسان وهنّ يقابلنهم بالإعراض (...) صناعة منْ إذا 'ما خلا بأرضٍ طلب الحربَ وحده والنزالا'، فقام يفلّ الجيوش بقنابل الكلام". وتبنّى الشعر الذي هو "صناعة الذين يعظّمون مفخرةً ليُقتَدى بها، ويَصِفون مظلمةً ليُنتَبَه إليها، ويضربون الباطل لينصروا حقيقة، ويدوّنون حكاية ليعَوِّل التاريخ عليها".
نقد القصيدة المتصنّعة المتزلّفة وقدّم نظرة حداثية للشعر
وكان يقدّم المعنى على المبنى، مع تقديره التام لجمال الأسلوب. قال: "أنت تستطيع أن تُترجم شعر هوغو وموسّيه وروستان وتستفيد من ذلك غرضاً اجتماعياً (...) لكنّك لا تستطيع أن تترجم شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري ولا أن تستخلص منه غير بعض الحِكَم والأمثال مشتّتةً في تلك الأدغال (...) لماذا؟ لأن هوغو أطلّ على العالم أجمع، فنظر إلى الحقائق، وبما له من قوّة الخيال وحُسْن السبك، ربطها وكساها من شعره حلّةً مهيبة رهيبة. (...) فلو عُني المتنبي وأقرانه بالأمور نظيرهم وقصدوا فيه إلى مرامٍ اجتماعية عالية أكان خانهم خيالهم؟ أوَلا كانوا فاقوا شعراء الإفرنج في دقّة الوصف وقوّة التصوّر وسِعَة الخيال؟". هنا أيضاً تكلم شبلي شميّل بلسانٍ حداثيّ معاصر؛ فالشعر، خالياً من المعاني السامية، كلامٌ له رنينٌ آنيّ لا يخلد. وهذه مشكلة الكثير من القصائد العربية العمودية، العصيّة على الترجمة الجميلة، لأنك إذا أفرغتها من المحسّنات والبديع وزخارف اللفظ غدَتْ خاليةَ الوفاض. وليست ترجمة الشعر هي المعيار الوحيد الذي يكشف الغثّ من السمين، فمثل هذه القصائد لو صاغها ناظمها نثراً لبَدَتْ هزيلة القيمة أيضاً".
فكيف نظر شبلي شميّل إلى الشعر شعراً؟ لقد سردَ رأيه في مطوَّلةٍ عنوانُها "التحوُّل في الشعر"، جاء فيها: "ليس لي في الشعر مطلَبْ/، إنّما لي فيه مذهبْ/ تارةً أرغب في النظـ/مِ وطوراً عنه أرغبْ/ لستُ بالشاعر لكنْ/ علّ حُكمي فيه أصوب". وأعرب عن أنه لا يحبّذ الشعر الذي على نهج "حادي العيس كما في/ عهد قيس والمهلّبْ/ نتغنّى بسليمى/ وعلى الأطلال ننحب/ نتباهى بعِظامٍ/ ليس فيها اليوم مسحَبْ (...) بئس ما الشعر غدا/ أعذَبُه ما كان أكْذَبْ".
كانت ميّ زيادة أوّل مَنْ لفَت الانتباه إلى شبلي شميّل الشاعر في مقال نشرته عام 1913. قالت: "طبيبُنا شاعرٌ رغم إرادته. لقد وجدتُ في بعض قصائده شيئاً غير البحر والسجع والرويّ. وجدت تعبيرات جميلة وخيالات فخمة تتهادى بين أجرام المادّة. (...) لا أعني أنك تجد في قصائده رِقّة شوقي الذائبة أو عذوبة الخليل الجارحة أو دلال ولي الدين يكن المعذَّب. لا، الدكتور شميّل بعيد عن هذه النغمات لسبب رئيسي وهو أنه يكتب بفكره فقط. ويندر جدّاً أن تسمع عواطفه متكلّمة لأنّ شعره كنثرِه ينحدر من دماغه (...) هذا النوع من الشعر يزيد في ثروة اللغة وجمالها".
وأيّدها عباس محمود العقاد في ما ذهبتْ إليه. قال إن شميّل "ظلَم شاعريّته كما ظلم سائر الشعراء (...) ومَن يستطيع أن يضرب على هذا الوتر ولو مرّة واحدة في حياته فقد كان قادراً ولا شكّ أن يعيد النغمة مراراً، وأن يكون أشعر ممّا كان، لو راضَ قريحته على معاني الشعر وعباراته، لولا شدّة تعصبه للعلم".
كان يستدعي مفرداته من قاموسه العلمي ويلبسها رداء الأدب
كان شبلي شميّل يستدعي مفرداته من قاموسه العِلمي ويُلبسها رداء الأدب. لكنّ طغيان الفكر لديه لا يطمس الأسلوب البليغ. ولم يكن إعجابه بأبي العلاء المعرّي مستَغرَباً. وقد اعتبره "فيلسوف الشعراء قاطبة، وأكثر شعراء العرب عِلماً وأرجحهم عقلاً، وهو الوحيد بينهم الذي مال عقله عن سِفساف القول إلى الحقائق ومحاربة الضلال". وقد صاغ معارضة شعرية لقصيدة أبي العلاء الشهيرة "هذا جناه أبي عليّ" بأبيات ثلاثة: "فلو ارتضيتُ بما جنا/هُ أبي عليَّ وما انفردْ/ لم أشْكُ إلّا دهرَنا/ وبذاك تعزيةُ الولدْ/ لكنْ جنيتُ أنا عليَّ/ وما جنيتُ على أحد".
وقد أورد قصيدة "لولا الهوى" طيّ مقالة بعنوان "تاريخ الاجتماع الطبيعي" عرض فيها التشابه بين المجتمع البشري والجسم الإنساني، "فالرابط بين الكريّات الحيّة التي يتألّف الجسمُ الحيّ منها ليس إلّا الميل البسيط المغروس في كلّ شيء لحفظ ذاته أوّلاً؛ لأن كلّ شيء في الأصل يدور حول مركز نفسه بالشوق الحاصل فيه إليه، وذلك هو محبّة الذات المُنفردة، ثم يتحوَّل هذا الميل في الكريّات إلى ميلٍ مركَّب لحفظ ذاتها بحفظ ذاتٍ سواها؛ لأن اجتماعها بعضها مع بعض اجتماعاً بسيطاً في أول الأمر لا بد من أن يؤثِّر في طبيعتها تأثيراً مهمّاً، بحيث تصبح حياة بعضها مُتوقّفة ضرورةً على حياة البعض الآخر".
وقد استخدم شبلي شميل تعبير "الشوق" الذي نحته العرب قديماً للتعبير عن "الجاذبية". وقال: "مرجع الفضل في اكتشاف نواميس الجاذبيّة وتطبيقها على العلوم الرياضية إنما هو لنيوتن وحده. على أن نيوتن وقف في مذهبه عند هذا الحدّ ولم يُشِر إلى العلاقة بين جاذبيّته وسائر قوى الطبيعة ليردّ هذه إليها أو يجعل تلك منها، حتى انتشر مذهب النشوء والتحوُّل فأتمَّ الرابط وصارت هذه النتيجة لازمة". وجاءت صياغته للفكرة بالأبيات: "لولا الهوى وبديع الشوق يهديهِ/ ما صحّ في الكون معنىً من معانيهِ (...) ولا استقامت حياةٌ في الوجود ولا/ تمّ الوجودُ ولا تمّت مبانيه/ شوقٌ تكامل من أدنى الوجود إلى/ أعلى فأعلى إلى أعلى أعاليه/ حتّى تناهى وقلب المرء تُلهبه/ نارٌ من الحبّ يُذكيها وتذكيه/ نارٌ من الشوق في قلب المشوق ثوَتْ/ تذكو فيُصلى، يغذّيها فتفنيه/ ما زال والنار تذكو في جوانبه/ حتى تفانى بما قد كان يُحييه".
وغير الشعر الفكريّ كانت له غزليّاتٌ منها قولُه: "فيا نوح الحمام على هديلٍ/ بكينا معْه كلّ صدٍّ شريدِ (...) ظننتُ القلب بركاناً تقضّى/ عليه العهد من زمن بعيد (...) إذا أنا صنتُه من كفّ عادٍ/ فكيف أقيهِ من ألْحاظ غيدِ؟".
وكان شبلي شميّل جريئاً في تناول الموضوعات التي تلامس المحرّمات، وكان عصره جريئاً مثله. أحبَّهُ البعض وعارضه البعض الآخر، لكن لم يعتدِ عليه أحدْ، إلى أن مات بالقاهرة في أوّل يوم من سنة 1917، بعد نوبة ربو حادّة.
* كاتب من لبنان