متى يمكن أن يُبدع الكاتب نصوصاً جميلة؟ في ظلّ سلطة الاضطهاد، أم في ظلال سلطة الحرية؟ يبدو السؤال زائداً عن الحاجة هنا، فالجواب الحاضر، البديهي، المتوافق مع الحقيقة هو أنّ مناخ الحرية، لا أجواء القمع، هو الذي يمنح الإبداع شروط الكتابة.
وفي هذه المسألة قد يصطدم القارئ بما يقوله الروائي والناقد السوري الراحل حليم بركات، في فصل عنوانه "الكاتب العربي والسلطة" من كتابه "غُربة الكاتب العربي" من أنّ "الاضطهاد العنيف والمباشر... لا يقضي على الأدب، على العكس، يبدو أنّه عامل مهمّ في نموّه"، بمعنى أنّ المواجهة بين الكاتب والسلطة المضطهِدة تُفضي إلى إنتاج أدب جيّد، بل عظيم، كما حدث في روسيا القيصرية، أو في فرنسا قبل الثورة، ولسوف يقدّم الروائي السوري تفاصيل أُخرى من حالة بلد مثل العراق، حيث لاقى كلٌّ من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري اضطهاداً من السلطات الحاكمة هناك، عزّز من قوّة الأدب الذي أنتجوه.
لا يتطرّق الكاتب إلى الآليّة التي تمنح الكتابة ذلك العامل الذي يُسهم في نموّ الأدب، ولا يمدح الاضطهاد بالطبع، ولكنّه يثير قضية العلاقة بين الكاتب والكتابة، أكثر من إثارة قضية العلاقة بين الكاتب والسلطة.
هل كان السيّاب سيكتب شعراً مختلفاً لو لم يكن ملاحَقاً؟
وإذا كان موضوعنا كاتباً محدَّداً بعينه، فقد نصل إلى نتيجة مشابهة لنتيجة حليم بركات، ولكن الأدب نفسه، أو الحياة الأدبية عامّة، تتعرّض لأسوأ النتائج، ويمكن أن يدمّرها تماماً أيُّ اضطهاد، وسبق أن ردعت السلطة السوفييتية الناشئة حديثاً في موسكو بعد ثورة أكتوبر، الكتّاب والشعراء والنقّاد الذين فكروا بالتجديد، والكتابة المختلفة، وهناك احتمال راجح أن يكون ذلك الإجراء التعسّفي قد أدّى إلى تدمير أصحاب ذلك الاتجاه الأدبي والفني.
واللافت هنا أنّ سلطة الاضطهاد تُصادر الموضوعات، بينما صادرت سلطة الثورة الموضوع والشكل. والأمر متعلّق هنا بحرّية الكاتب، فالاضطهاد لا يُفسح المجال لحرّية الكتابة، ودوُره محبط، أو معوق، أو مانع بالمطلق لها. وخاصّة تلك الآداب التي تحتاج لمناخ الحرية المادّي كي تستطيع أن تُنتج، مثل المسرح والسينما والفنون التشكيلية. والإبداعات الأدبية والفنّية الكبرى في تاريخ البشرية لم تُكتب في النزاع مع السلطة، بل في وضع البحث عن جوهر الإنسان.
هل كان تشيخوف سيعجز عن كتابة قصصه لو كانت الحياة السياسية أكثر حرّية وانفتاحاً في بلاده، أم كان سيقدّم لنا قصصاً أفضل ممّا قدّم أو أسوأ؟ من يسيطر على النتيجة: ذات الكاتب، أو الأجواء المحيطة؟ هل كان السيّاب سيكتب شعراً مختلفاً لو لم يكن ملاحَقاً؟ والمسألة ليست في الموضوع في نهاية أمر المناقشة حول الأدب، بل في القيمة الجمالية التي تُنتج الأدب.
إحدى المشاكل في هذا الرأي أنّه يتجاهل ذات الكاتب، أي تلك الشخصية الخاصّة التي تُنتج أدباً جيّداً. والشرط الأساسي هو الحرية الشخصية العميقة التي تُنتِج، لا لأنّها مضطهدة، فالمضطهد قلّما يتمكّن من الكتابة والإبداع، بل لأنّها تكافح الاضطهاد، وبهذا المعنى يمكن قراءة "أنشودة المطر" لشاعر اسمه بدر شاكر السيّاب، الذي لو لم يكن موجوداً، لما وُجدت هذه القصيدة، في ظلّ أي اضطهاد.
* روائي من سورية