في كتابه الأخير، يعود بنا رياض نجيب الريّس (1937-2020) إلى تاريخ ليس بعيداً، أصبح شبه منسيّ، لا أحد يرغب في العودة إليه، ما زالت أحداثه مفتوحة على تساؤلات بقيت بلا إجابات. كتاب الريّس ليس عن النسيان، إنه دعوة إلى التأمل أكثر منها إلى التذكّر، فالماضي لا يموت بقدر ما يشكل معضلة ما زالت مطروحة، لو أغدقنا عليها ما تستحقه من الاهتمام، فستواجهنا الأسئلة الأساسية التي لا يستقيم من دونها التصدي لأسئلة الحاضر. فالماضي لو انطوى في الزمن، آثاره تفعل فينا، ولا مهرب منه إلى النسيان، ما يغدو ذخيرة تدفع إلى التفكير في الحاضر.
تعيدنا السيرة الذاتية لرياض نجيب الريّس ("صحافة النسيان"، 2020) إلى ماضي الصحافة، تجسدت بمتابعة الابن خطى الأب نجيب الريّس في جريدته "القبس". لم يرث الجريدة، ورث المهنة، وترك دمشق في سنّ مبكرة إلى بيروت في زمن كانت عاصمة الصحافة العربية. دخل مدارسها، وتخرّج من جامعاتها، وانضم إلى أحزابها، وتعلّم السياسة في مقاهيها، وتسكّع في شوارعها، وتنشق الحرية في مكتباتها، وعرف من خلال صحافتها أن للرأي أكثر من وجه واحد، وأن الحرية بلا حدود، مثلما العقل بلا حدود.
تربى رياض على التقاليد العريقة للصحافة في العالم، وكان طوال ممارسته لمهنة المتاعب على تماس مع العديد من الأحداث الدولية والعربية. لم يغفل منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، عن حدث عالمي أو إقليمي، فلم يستنكف عن الذهاب إلى حرب، ولا مقاربة انقلاب، أو اكتشاف مؤامرة.
تاريخ شبه منسيّ، لا أحد يرغب في العودة إليه
اهتم بكل حدث لافت، وكان بشكل ما حاضراً دائماً، سواء كمراسل، أو مراقب، أو متابع، أو صاحب رأي. عايش مفاصل ومحطات تاريخية، كتب عنها من قلب الحدث، مثل حرب فيتنام 1966، وانقلاب اليونان العسكري عام 1967، وأحداث قبرص، والغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا على أثر اندلاع "ربيع براغ " عام 1968.
في العالم العربي، سيتعرف إلى الخليج، وكانت النار تأكل اليمن والجنوب العربي من لحج حتى حدود المهرة في حضرموت مع مسقط وعُمان. فالثورة، وكانت في أوجها، لم تكلّ عن افتراس أبنائها واحداً بعد الآخر وبالجملة. شهد الحرب الأهلية في عدن بين الأطراف المتصارعة على السلطة، بينما كانت بريطانيا تستعد للرحيل. في اليمن، سيتابع مجريات الحرب بين الجمهوريين والملكيين.
من اليمن ستبدأ اهتماماته بالخليج، في وقت كان فيه عرب المشرق والمغرب لم يسمعوا من قبل بكلمة "خليجي". كان الخليج منطقة مجهولة، وكأن الصحافي الريّس سيكتشفها. منذئذ سيعاصر تقلباتها، ويكتب عنها سلسلة رياحه الأربعة: "رياح الجنوب"، "رياح السموم"، "رياح الشرق"، "رياح الشمال"، وينغمس في أحداث الجزيرة العربية.
يعيد الريّس إلى الذاكرة في كتابه "صحافة النسيان" ما نسيه، أو يتناساه اليمنيون والخليجيون والسوريون واللبنانيون والقوميون والشعراء والمثقّفون والمسلّمون والمصرفيون... هذه القائمة تشكّل فهرس الكتاب، ما يوجز تعمّد العرب نسيان ما صنعوه لأنفسهم من كوارث وتراجعات وارتدادات... هل نُسيت؟ بل وعلى استعداد لأن يرتكبوا المزيد من الأخطاء القاتلة. ما يذكرنا بوجهه كمحلل سياسي متورط في الكتابة عن مخاضات تطورات المنطقة التي أفضت إلى الفرقة والتشرذم، وتحذيره من انقسامات وحروب ومجازر الإخوة وأوهام السلطة، وأكاذيب الإعلام، وانبعاث النزاعات الأهلية، وتجاهل ما يجمع العرب، والانسياق إلى ما يفرق بينهم.
يكتب عن أحداث جار عليها النسيان في العالم العربي، كان الأجدر ألا تنسى، لكنها لم تذهب إلى العدم، ما دام أنها تتجدد من آن لآخر، سواء في الانقلابات أو الصراعات على السلطة، أو حروب تحرير، لم تعد ضد الاستعمار، بات التحرر من الاستبداد المحلي.
ماضٍ مرشح للتكرار، هذه الكوارث لم تنطوِ، ولو تبدل الزمان واختلفت الوجوه، النسيان يهدر الضحايا، وكأن التضحيات ذهبت هباءً، ولم تتعلم منها الحكومات ولا الشعوب شيئاً. قد تُستعاد ما دام وقودها جاهزاً؛ نفط وسلاح، عداوات وضغائن، معتقلات وسجون، قتال الأخوة، احتقانات مذهبية، تدخلات غربية... قضايا مصيرية كبرى، نعمل على خسارتها.
إن لم نتعلّم من الماضي، فسنسقط في الهاوية نفسها
تجلت أخيراً في تدمير سورية، وسقوط لبنان، وفشل فكرة القومية العربية، وتأبيد الديكتاتوريات وتوارثها، وانهيار قضية الديمقراطية والتعددية في بلاد عصفت بها رياح هوجاء هبّت على العرب جميعاً، قد تذهب بهم إن لم يجرِ تداركها.
يختزل الريّس في كتابه الأخير، تجربته الصحافية من خلال ذاكرة تأبى النسيان، ولا يوفر مشاهداته الحية، عندما تعرّض للمثقفين، لا سيما في الإشارة إلى جورج أورويل صاحب رواية "1984" فيستعير منه: "كانت هناك معارك كبيرة، كُتب عنها، ولم يكن هناك معارك، وكان هناك صمت كبير عندما قُتل مئات الرجال، وكانت هناك قوات تحارب بشجاعة، وتدان بالجبن والخيانة، وهناك أيضاً من لم يحاربوا قط، ولم تُطلق عليهم طلقة واحدة، يحيون كالأبطال في معارك وهمية".
ينشد كتاب "صحافة النسيان" أن يكون كتاباً مضاداً للنسيان، وأشبه بوصية، ألّا نشيح بأبصارنا عن التاريخ، إن لم نتعلم منه، فنحن نغامر بالسقوط في الهاوية نفسها، أما التكاليف فباهظة؛ دول تفقد سيادتها، وفي المشهد السوري أكثر من دليل، بلد ممزق ومنهوب، ضحايا بالملايين؛ شهداء ونازحين ولاجئين ومعتقلين ومفقودين ومعاقين.
يربط الريّس بين بلده سورية ومحنته الشخصية، ترافقا مع إصابته بتعطل كليتيه عن العمل، واضطراره ثلاث مرّات في الأسبوع إلى غسل الكلى. كانت سورية المدمرة، الوجع الأشد ألماً في محنته. لم يعد بوسعه بعدها أن يكتب أو يقوى على حمل القلم، أو حتى على التلويح لسورية الآخذة في الابتعاد.
سورية التي كان لنضالات الأب نجيب الريّس دور في استقلالها، وها هي بلد تحت وطأة أربعة احتلالات ينهار، مصاب واحد ضرب جسديهما معاً، مشاعره نحوها أنها توأمه، وما حدث جاء ليكمل مشهد الموت الطويل الذي خبره منذ كان طفلاً في "موت الآخرين" الأب، الأم، الأصدقاء... كانت ذروته سورية.
سورية التي غادرها، ولم تغادره قَطّ.
(روائي من سورية)