تختص زاوية "صدر قديماً" بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا قراءةٌ في كتاب "رأيٌ في أبي العلاء" (1945) للأديب المصري أمين الخولي (1895 - 1966).
خلافاً للقراءات التي طرحها كتّاب مثل طه حسين ولويس عوض حول مذهب أبي العلاء المعرّي الفلسفي وتبنّيه مواقف متماسكة حول الحياة والموت والدين والسلطة، ذهب الأديب المصري أمين الخولي (1895 - 1966) إلى قول مضادّ يركّز على التحليل النفسي لشخصية صاحب "اللزوميات" وشعره ونثره، إذ يرى أنّه أنتج جملة تأمّلات متناقضة فكرياً لكنّها تتّسم بالصدق وقوّة التأثير في سياق تذوّقها أدبياً.
أثّرت الخلفية الفكرية للخولي ــ بوصفه رجل دين آمن بتجديد التراث العربي وإعادة تأويل النصّ الديني ــ في اشتغاله على نقد المعرّي لكن ضمن حدود لا تحول دون تفهّمه لجوانب عديدة منها، حين وقف على الظروف الموضوعية والتاريخية التي ولّدت ردود فعل انفعالية ووجدانية صاغتها بلاغة عزّ نظيرها وأسلوبٌ فنّي تجاوز عصره، لكنّها لم تستقم في اتّجاه فكري معيّن، على حدّ تعبيره.
بين تيّار حداثوي استعاد إرث الشاعر العبّاسي كامتداد للمدرسة الأبيقورية ومؤسِّس لمنهج الشكّ، وتيّار سلفيّ معاكِس دعا إلى تكفيره، برز كتاب "رأيٌ في أبي العلاء: الرجل الذي وجد نفسه" للخولي، الذي صدرت طبعته الأولى عام 1945، كتعبير عن وجهة نظر ثالثة ربما لم ترُقْ لتيّارين تسود آراؤهما ــ على تباينها ــ في الثقافة العربية.
يرى المؤلّف أنّ السرّ في تناقض آراء أبي العلاء نفسيٌّ محض
استندت الانتقادات الموجّهة للكتاب إلى عدم تفريق مؤلّفه بين خطاب صاحب "رسالة الغفران" إلى العامّة، وبين سجالاته التي خاضها مع النخب من الفقهاء والأدباء، وأنّه خلط أيضاً بين تنظيرات المعرّي في شبابه وبين تلك التي نضجت أو تغيّرت بعد عزلته التي دامت قرابة ثلاثين عاماً. لكنّ الخولي يؤكّد في مقدّمته على أنّه قرأ جميع آثار أبي العلاء كوحدة متجانسة ووصلها بشخصيته ودواخلها النفسية وبيئته الاجتماعية.
وبنى مقاربته على أنّ الرجل قد صَدَقَ الناسَ الحديثَ عن نفسه، وفي حياته وظروفها وأزماتها، ثم في فنِّه وسِعَته وتساميه، لكنّه لم يؤلّف كتاباً واحداً في الفلسفة ولم يُبدِ رأيه في المذاهب الفلسفية التي كانت موضع نقاش في زمنه. لذلك "كان من الخطأ أن يجعل بعض النقّاد أبا العلاء فيلسوفاً بالمعنى اليوناني لهذه الكلمة، وهو لم يُلخِّص الفلسفة اليونانية ــ فضلاً عن أن يكون من المنمِّيِن لها ــ ولا كان من المتعلّقين بمذهب من مذاهبها".
ويرى الخولي أنّ "السرّ في تناقض أو تغاير آراء أبي العلاء نفسيٌّ محض، يرجع إلى ظاهرتَيْن في نفسه: أولاهما: الرغبة المتوثّبة في الاستعلاء على ضعفه والقهر لواقعه، وهو ما ساد في تلك المرحلتين من حياته على السواء؛ وثانيتهما: دقّة هذه النفس الشاعرة في إدراك عواملها المختلفة وخوالجها المتغايرة، ثم يؤازر هذين العاملين انقطاع أبي العلاء لتدوين خواطره وفراغه لذاك وتوافره عليه".
ويستشهد بما كتب الشاعر في رسائله حول العزلة لإبراز مقولاتِه المتناقضة في هذا الإطار، فتارةً يقول "ولو أنّي حُبيتُ الخلد فرداً/ لما أحببتُ بالخلد انفرادا/ فلا هطلت عليّ ولا بأرضي/ سحائبُ ليس تَنْتَظِمُ البلادا". ويدوّن في رسائله ناثراً: "مَن اختلط بالعالم، وصبر عليهم، وكفّ نفسه عمّا يستحسن سواه، فهو البرّ السعيد"، ليعود ويقول في بيت آخَر "فرّ من هذه البرية في الأرض/ فما غير شرّها حاصلُ/ فشعاري 'قاطع' وكان شعاراً/ لتنوخ في سالف الدهر واصلُ".
أمّا رأيه في الإنجاب، فيتغيّر كذلك من موضع إلى آخر، فمرّة ينشد: "قد ساءها العقم لا ضمّت ولا ولدتْ/ وذاك خيرٌ لها لو أُعطيت رشدا/ ما يأخذ الموتُ من نفسٍ لمنفردٍ/ شيئاً سواها إذا ما اغتال واحتشدا". غير أنه يكتب في قصيدة أخرى: "دُنياك دار كلّ ساكنِها/ متوقعٌ سبباً من النقْلِ/ والنسلُ أفضل ما فعلتَ بها/ وإذا سعيتَ لهُ فعن عقْلِ".
يصنّف الخولي في كتابه تناقضات المعرّي ضمن المسائل الأساسية التي استحوذت على معظم أشعاره، خصوصاً في ما يتّصل بتحريم قتل الحيوان وأكل لحمه، والمرأة والعائلة، وكراهية الحياة، فلا رأي ثابتاً له في كلّ مسألة منها، موضحاً أنّ المعرّي ينفي معظم معتقداته التي اتّكأ عليها الحداثيون باعتبارها قولاً راسخاً لديه، ويتكرّر اضطرابه عشرات المرّات حين يتّصل الأمر بالإيمان والإلحاد.
ويخلص إلى أنّ أبا العلاء أخلّ بمنهج الفلسفة في كلّ ما تركه من آثار، ويحيل ذلك إلى عوامل جسدية ونفسية وأحداث دفعته إلى إنكار الواقع والاستعلاء عليه، والعيش في صراع دائم بين دعوته إلى الزهد وحسرته على ما فاته من تقدير وإعلاء لمكانته في مرحلة تراجع فيها شأن الشعر والشعراء.