يقول عبد الله العروي في أحد حواراته: "لا أميل إلى الرواية إلّا بدافع تجاوز ما يَظهر من صرامةٍ في تحليلاتي الأيديولوجية والتاريخية"، حيث يقارب في مؤلّفاته السردية الظواهرَ الاجتماعية والتاريخية، من خلال شخصيات قلقة وحائرة حيال الواقع في أحد مستويات قراءته.
يتتبّع الناقد صدوق نور الدين جملةَ أعمالٍ أدبية للمؤرّخ والمفكّر المغربي (1933) انطلاقاً من كونها "كتابةً من داخل كتابة"، حيث يجمع فيها بين تفاصيل الحدث الروائي وبين مفاهيم وطروحات فكرية، وهو يرى أن تجربته "بقدر ما تجنح في خلق شكلها الفني، المنبني على التكسير، تكسير المشهد الواحد، واحتضان أكثر من جنس داخل الجنس الواحد، فإنها لا تلغي التراث المتمثّل بالرؤية أو الخطاب المتعلّق بالتاريخ، بالفقه، بالتصوّف والأسطورة".
خلخلةٌ للتصوّر التقليدي للرواية باعتبارها تسجيلاً للواقع
ويستكمل نور الدين، في كتابه "عبد الله العروي: بين التمثّل الذاتي وصورة العالم"، الذي صدر حديثاً عن "الآن ناشرون وموزعون"، دراسةً سابقة تناول فيها رباعيّة العروي الروائية: "الغربة" (1971)، و"اليتيم" (1978)، و"الفريق" (1986) و"أوراق" (1989)، ونشرها قبل نحو ربع قرن. في عمله الجديد، يقرأ روايتي "غيلة" (2001)، بقالبها البوليسي الذي يتحدّث عن مصارعة الإنسان للسلطة في بحثه عن العدالة، و"الآفة" (2006)، بإضاءتها قوّة الذاكرة ببعدها الثقافي والحضاري، في اقترابٍ من رواية الخيال العلمي. كما يقرأ يوميّاته، "خواطر الصباح"، التي ظهرت في أربعة أجزاء، ومسرحية "رجل الذكرى" (2014)، كمحاورة جدلية حول القطيعة مع الماضي.
ويقف نور الدين عند النقاط المشتركة بين هذه الأعمال، ومنها تصوير الخروج والسفر وسياحة الذات التي تجسّد ذلك التوق إلى المعرفة والسلام الداخلي، وهناك أيضاً "شخصية واحدة تحضر وقد تشبّعت بفكر تراثي تقليدي يمثّل أصالةً لا مفرّ منها، ومن الدفاع عنها، ما دامت ترسم الماضي في أنصع صورة له"، والتي عبّرت عنها شخصيات إدريس وشعيب والشيخ العوني وعلي نور وسرحان وغيرها، حيث يمتزج تكوينها بين التخييل والسيرة الذاتية.
وفي تداخل الموضوعي والذاتي، يلفت المؤلّف إلى أنّ رواية العروي تمثّل تاريخ المعمار، واللباس، وتهتمّ باللون وحتى بالمطبخ، وهو ما لا نعثر عليه في نصوص روائية مغربية أخرى. كما أنّها تنبني على خلخلة التصوّر التقليدي المرتبط بتسجيل الواقع من خلال التوجّه نحو الإحاطة بالذات وبمشاعرها وتطلّعاتها وخيباتها، وترسيخ بناء جمالي يعتمد تداخل اللغات والمنظورات، والارتهان للرمزي والأسطوري، وتكسير بنية الزمن.
وبخصوص اليوميات التي دوّنها صاحب كتاب "ثقافتنا في منظور التاريخ" (1983) على امتداد حوالي أربعين عاماً، يبيّن نور الدين أنها تعكس حضور ثنائية المثقّف السياسي والمثقف الموسوعي، وليس المتخصّص الذي يمتلك رأياً أو موقفاً أو يقوم بمهمة تتعلّق بالسياسة، كما يفعل في تعليقه على تفوق الصهيونية من خلالها تخطيطها لحروب قصيرة ثم فرض السلام على العرب، واحتدام الصراع بين أتباع مكارثي وأنصار أسرة كينيدي في الولايات المتّحدة، والحركة الوطنية بوصفها صورة مصغّرة عن الواقع المغربي، التاريخي والاجتماعي.
شخصية واحدة تحضر في جميع رواياته تشبّعت بفكر تراثي تقليدي
ويلاحظ أيضاً تعدُّدَ المعاني والحقول التي تطرّقت إليها اليوميات، إذ لم تنحصر في الحقل الأدبي أو الفكري مثل ما هو مألوف في نمطٍ كتابيّ كهذا، إنما شملت السياسي، بغاية تبيان توسّع دوائر اهتمام المثقف إلى الحقول التي يخوض الكتابة والتفكير فيها مثل المسرح والموسيقى والعمارة والتشكيل، وعدم اكتفائه بالتسجيل، حيث يذهب أكثر نحو التعليق والتحليل الرصين للأحداث الجارية.
ويختم نور الدين الفصل الأخير من الكتاب بالإشارة إلى الرواية لدى العروي باعتبارها وحدةَ الحب والحنين؛ الوحدة التي تقضي قوة الفكر، وهي إنِ استحضرته، فلكي تقوله بطريقتها الخاصة، حيث تملك رواياته قوّة التجريب بحثاً عن كتابة مغايرة لمجتمع بطيء التحول. كما يذكّر بأنّ طرحه يحمل جملة تساؤلات تاريخية واجتماعية، في إطار نقدي.