صوفي غالابرو.. سَوْرة الغَضَب موضوعًا للفلسفة

21 يونيو 2022
صوفي غالابرو (منشورات فلاماريون)
+ الخط -

عندما يغدو الغَضب موضوعًا للسّؤال الفلسفيّ، ابتداءً من مُدوّنات الآباء اليونانيين، مرورًا بمُفكّري العصور الوسطى من المسيحيّين، ووُصولًا إلى فلاسفة الحداثة وما بعدها، حينها نتخلّى عن التصوّر الأخلاقيّ له بوصفه ــ أي الغضب ــ مجرّد انفعالٍ سلبيّ، طالما ذَمّتْه الأدْيان والأخلاق، ومجرّد تعبيرٍ عن الضّغينة والأنانيّة وعلامة عَدَم التحكّم في الذات. هذا هو موضوع "المُحاولة" الفلسفيّة التي كتَبَتها الباحثة الفرنسيّة صوفي غالابرو، وصدرت حديثًا لدى منشورات "فلاماريون" في باريس تحت عنوان "وجوهُ غضبِنا".

قسّمت الباحثة كتابَها إلى قسمَيْن: عالَجت في الأوّل منهما تاريخَ الغَضب، بوصفه عَجزًا عن التحكّم في الذات وعاطفةً هَوْجاء غالبًا ما قُرِنَت، في تاريخ الفلسفة، باللاعقلانيّة وانفعالات الجَسد في نزواتِه و"جَهالاته"، كما كان يُقال في شعرنا الجاهليّ. وتعرّضت، في هذا القسم، إلى الإدانَة المسيحيّة لهذا الانفعال، مُبرزةً التناقض الذي حَكَم هذا الموقف الدينيّ، لأنه يُجيز الغَضَبَ لله وأنبيائه، ويَمنعه عن العباد المقهورين.

ثم تعرّضت إلى المعالجة الطبّية لهذه الظاهرة بوصفها انحرافًا للمزاج، وتناولَت العلاقة بين الطّفولة والغَضب، محلّلةً عملية الدمج والجَمْعَنَة التي تقوم بها الأسَرُ والمدارس والمُجتَمعات من أجل تربية الأفراد على نزع فتيل الغَضب لدى الناشئة، لأنّه سلوكٌ مَشين.

بدون الغضب تبقى بعض الشرائح الاجتماعية خاضعةً وبلا دَور

في القسم الثاني من هذه "المحاوَلة"، عَقدت المؤلّفة فصلًا عن الفَلسَفة المُدافِعة عن الغَضب، والتي تتغنّى به قوةً مُحرِّرَةً، ترفض الظلمَ وتتطلّع إلى تغيير الواقع. ففي تاريخ المجتمعات والأفراد، كان الغضبُ مادّة من موادّ "العقد الاجتماعيّ"، إليه يَلجأ الأفراد لضمان التوازن، ضمن منطق التدافع الذي صوّرَه جان جاك روسو (1712 ــ 1778) وتوماس هوبس (1588 ــ 1679)، ومنه تطرّقَت إلى وصف الغضب لدى الطبقات الكادحة التي تناضل لتغيير واقعها من نير الاستغلال إلى التحرّر. وبأسلوب يقرب إلى أسلوب بول ريكور (1913 ــ 2005) وميشيل سير (1930 ــ 2019) معًا، تطرّقت الكاتبة إلى مفهوم العفو الذي يُعدُّ النقيض الفعليّ للغَضب، وقارنت بينهما مبيّنةً أنّ الصَّفحَ يمكن أن يُنير جوانِب معقّدة من الغضب.

وهكذا تتّصل صفحاتُ الكتاب تحليلًا لسائر المُدوّنات الفلسفيّة والأدبيّة والسينمائية وحتى الرّسوم المتحرّكة، من أجل إظهار بداهة نَسيتها أو تناسَتْها الخطابات الأخلاقيّة، ومفادُها أنَّ الغَضبَ قوّة ضروريّة تمكّنُ من الدّفاع عن الذات في مواجهة الاعتداءات الحميميّة والسياسيّة، وما ينجرّ عنها من انتهاكاتٍ. فَالغضب الذي يصعّده وينبِّله الفنّانون، وتلجأ إليه الأقلّيّات المُضطَهَدة هو ما يتيح استرجاعَ الحقوق وتطوير المجالات الحيويّة، وبدونه تظلّ بعض الجماعات خافتة الصوتِ، خاضعةً، لا مكان لها في عالم الصّراعات والتناحر. 

ولا ننسى هنا أنّ الكاتبة حفيدة الممثّل الفرنسي الشهير ميشل غالابرو، الذي أدّى الكثير من الأدوار الكوميديّة، وأنّها خصّصَت له سيرةً ذاتيّة لعلّها من باكورات نصوصها التي كتبتها في شكل حوارٍ مع الجَدّ، وهو ما أكسبها اطلاعًا واسعًا على الفنّ السّابع، الذي استقت منه العديد من أمثلتها.

يُؤخَذ عليها تجاهلُ ما كَتَبه الفلاسفة المسلمون عن الغضب

وبهذا التّحليل، تجعل صوفي غالابرو من هذه العاطفة المنبوذة المُحرَّمة قوةً تَحريرٍ وانعتاقٍ، تواجه الظلمَ والاستعباد. بل لعلّ ما قيل في إدانة الغضب مجرّدُ غطاءٍ إيديولوجيّ ــ بالمعنى الماركسيّ ــ فَرَضَه السادة من إقطاعييّ الأمس وساسَة اليوم لإسكات الطبقات الكادِحة ومنعها من التعبير عن حقوقها المهضومة. وبذلك يخرج الغضب من التقييم السلبي والنظرة المعياريّة الازرائية، ويُقَدّمُ كقوّة تحرّر، باتت ضروريّةً في عصرنا.

وبناءً عليه، لا يمكن حَذف الغَضب من قاموس العواطف، ولا من آليات التفاعل الاجتماعيّ، لأنه يؤدّي فيه وظيفة أساسيّة: تحقيق التوازن النفسيّ والجمعيّ بين الفاعلين وإتاحة التّسامي على الجراح الذاتيّة وإصلاح وضعيّاتٍ ما كان لها أن تتغيّر لولا سَوْرة الغضب التي تعلو، فهو، بهذا المعنى، يَقترب ممّا سمّاه المخيال العربي البدوي: "الغَضبَة المُضَريّة"، والذي يقْرنها بالنَّجدة والمساعدة والإباء لرَفع الظُّلم. كما يغدو الغضب انفعالاً سياسيًّا بِمجرّد مغادرة ساحة الجسد الفرديّ والتعبير عنه في النطاق الاجتماعيّ للعَيش المشترك في المدينة.

غلاف وجوه غضبنا

كما خصَّصت المؤلّفة فقراتٍ مُفصَّلة للتفريق بين الغضب والشَّحناء، هذا الإحساس الذي يستمرّ عبرَ الزَّمن ويهدف إلى تحطيم الآخر، في حين أنَّ الغَضبَ عاطفة وقتية لا تلبثُ أن تَهدأ، هدفها رَفع المظلمة وردُّ الحقوق، ولا تقترنُ بإرادة هدم الآخر والقضاء عليه. وهكذا، يبدو هذا الخطابُ جذريًّا للغاية، تكاد تبرّئُ فيه الغضب ممّا لحقه من الشّوائب، وتعيد تأهيله ضمن العواطف المحمودة والأخلاق المقبولة، وهو عين ما نرى آثارَه في بعض كتب الصّوفيّة الذين توسّعوا في توصيف الأخلاق وكيفياتِ نقْلها من المرذول إلى المقبول، مثل القُشيري وابن عَربيّ والطوسي.

وتنتهي غالابرو إلى القول بوجود "غضب ناجح" وآخرَ "فاشل": تنجح سَوْرَةُ الغضب في تحقيق التوازن إذا قُدّرَت على الوجه الصحيح وبشكل عقلانيّ، وتفشل إذا لم تُفهم على حقيقتها أو صُرفت في غير ما ينبغي أن تصرَف فيه. 

حُرِّرَت هذه المحاولة بضمير المفرد المتكلم وبأسلوبٍ أدبي ذاتيّ، تمتزج فيه الإحالات الفلسفيّة الكلاسيكيّة مع التجارب الحميمَة للكاتبة الفتيّة، وذكريات طفولتها، ممّا أضفى على عملها طابعًا سمِحًا، يتقاطع فيه الذاتيّ بالموضوعيّ، والمجرَّدُ بالمَعيش، وتعانق فيه الفلسفةُ اليوميَّ في كلّ نتوءاته ومنعرجاته، لتفكّك سَورات الغضب عبر النقد ولكنْ من غير الوقوع في فخ التجريد.

لكنْ، ما يمكن أن يُؤخَذ على هذه "المُحاولة"، هو تجاهلُ ما كَتَبه الفلاسفة المسلمون، مثل ابن سينا والفارابي وابن رشد، عن القوّة الغضبيّة، سواء لشَرح نُصوص المُعلّم الأوّل أرسطو، أو تصريفًا لبَنات أفكارهم بعد مَزجها بما جاء في النّصوص الإسلاميّة. وليس من عذرٍ لهذا التجاهل، لأنّ كُتبَ هؤلاء الفلاسفة مترجمةٌ إلى الفرنسيّة، وسبَق وأن اعتَمدَها مفكّرو الغرب من بين مصادر أخرى.

هدفُ الغضب رفع المظلمة وردّ الحقوق، لا هدم الآخر

كما أنها اقتصرَت على وصف غضب الأقلّيّات التي تعيش في الغرب، مُضَخّمةً آلامها، متجاهلةً غضبَ الثقافات الأخرى التي طالما رزحَت تحت نير الاستعمار والاستغلال، الذي شرَّعَ له هذا الغرب بِنصوصه الكبرى، تلك التي تمجّد الصفحَ ولا تُعطيه للشعوب المستعمَرَة سابقًا، ولا تعوّضها عمّا ارتكبته.

وتبقى جِدّة هذا النصّ في تخصيصه كاملًا للغضب عبر نفسٍ إشكاليّ، ينزع عنه طابع التناول الأخلاقيّ (السطحيّ) ويربطه بأمّهات النصوص التمثيليّة في تاريخ الفلسفة والآداب والفنون. وهو ما يفتح المجال فسيحًا للعَودة إلى هذه الظاهرة، في تاريخ الثقافة العربيّة، التي وقفت نُصوصُها عليها وحلّلت دوائرَها وارتدادها، ليس فقط في الخطاب الأخلاقيّ أو الصوفي وإنّما أيضًا في الخطاب السياسي. فرغم شدّة الأنظمة الدكتاتوريّة التي تعاقبت على حكم الشعوب العربيّة والإسلاميّة، لم تتخلَّ هذه الأخيرة عن الغضب المُحَرِّر، بل إنّها حقّقت ما حَققت من ثَوراتٍ وتحوّلات بفضل غَضَبات قوميّة شاملة، أدّى بعضها إلى اندلاع موجات الربيع العربيّ التي تُعدّ التعبير الأنقى عن "الغضب الساطع"، بعد عقودٍ من القمع والاستبداد.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون