يُعتقد أنّ الموسيقى تُبهج أو تغيّر الحالة الذهنية والعاطفية للإنسان، وهي مسألةٌ شغلت الفلاسفة والزعماء الدينيّين والسياسيّين والنقّاد عبر التاريخ. وفي كتاب "صُنع الموسيقى في العالم العربي: ثقافةُ وفنّ الطرب"، الصادر حديثًا ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بترجمة عامر شيخوني، ينقل الباحث والموسيقي اللبناني علي جهاد الراسي صورةً عن السعي الدؤوب لمحاولة فهم العلاقة بين الموسيقى والتغيُّرات العاطفية من وجهة نظر مؤرّخ مختصّ في علم موسيقى الشعوب، مُقدّمًا دراسةً عن الموسيقى العربية وأبعادها الوجدانية العاطفية، ورؤية وأفكارًا لتجارب مماثلة في سياقات عالمية أُخرى.
يرسم الكتاب صورة استيعابية للطرب بوصفه بيئة، أو ثقافة فرعية مختصة بالموسيقى، ويدرس العلاقة بين هذا المجال الثقافي والثقافة العربية عمومًا، ويطرح أسئلة نظريّة حول إذا ما كانت حالات التمايز العاطفيّ، مثل النشوة، تمنح شعورًا بالفردية والقوة، وإذا ما قدَّمت ثقافة الطرب بديلًا عاطفيًّا من جوانب أخرى أكثر انضباطًا شكليًّا أو لفظيًّا أو فكريًّا في الحياة العربية، وما الذي يصف المناسبة الموسيقية الطربية النموذجية، وكلها أسئلة أنموذجية في علم الموسيقى العربية ستبقى تنتظر جوابًا.
يعود أستاذ علم الموسيقى العرقية في "جامعة كاليفورنيا" بلوس أنجلوس، في كتابه، إلى بداية الاحتكاك الموسيقى بين الشرق والغرب، ذاكرًا أنّ غيوم أندريه فيوتو، الذي كان ضمن بعثة علمية رافقت نابليون بونابرت إلى مصر، أبدى إثر حضوره وفريقه حفلةً لمنشدين دينيّين، عدم تقديره ما رآه وسمعه من طلب المستمعين الإعادة من المنشدين الذين كانوا يستجيبون مرّات عديدة بمدِّ مقاطع معيَّنة، وتنويع إبداعاتها اللحنية، وسْط نشوة المستمعين وانفعالهم الشديد، كما اعترف بصدمته وانزعاجه من استعراض العاطفة الغريب هذا، إلا أنه سلّم بأنه "لا جدوى من الحُكم ضد تذوُّق أمة بأكملها".
رأى الشدياق أنّ الموسيقى الأوروبية عقلانية، بينما موسيقى الشرق مختصَّة بإثارة المشاعر
وفي الجهة المُقابلة، يذكر أنّ شخصًا شرقيًا هو أحمد فارس الشدياق أُتيحت له معايشة الموسيقى الأوروبية خلال زيارة مالطا ولندن وفرنسا، فحاول مقارنة النوعَين، كاستخدام النوتة والهارموني في التأليف الموسيقي الغربي، والمرونة الإيقاعية الشرقية، فخرج بنتيجة لبحثه مفادُها أنّ الموسيقى الأوروبية "متحفّظة عاطفيًّا" و"عقلانية"، وتخدم هدف تمثيل الصور والمفاهيم، بينما موسيقى الشرق مختصَّة بإثارة مشاعر قوية.
ويعتبر الراسي أنّ فيوتو والشدياق استفادا من توصيف كلّ منهما ثقافةَ الآخر الموسيقية، مُضيفًا أنّ صدمة فيوتو دلّت الشدياق على نشأته الموسيقية الأوروبية، وخلفيته العقلانية المتجذّرة، ولفتت الأوروبيين إلى التأثير العاطفي الطاغي في الموسيقى الشرقية، ما جعلها تفتنهم وتأسر قلوبهم، كما أنّ التقاء الشدياق بالموسيقى الأوروبية أثَّر في وعيه، فدفعته النقاط الجمالية فيها إلى تقييم نظرته إليها.
ويتحدّث المؤلّف عن "بدايات التغيير في الشرق"، قائلًا إنّ توصيف "الشرق مقابل الغرب" ترافق باختلاف الشرقيّين خلال محاولاتهم نسج محاكاة بين موسيقاهم والموسيقى الأوروبية، ففي "مؤتمر الموسيقى العربية" في القاهرة عام 1932، الذي جمع مؤلّفين موسيقيّين ومنظّرين وباحثين موسيقيين من أوروبا والشرق الأدنى، دعا المشارك محمد فتحي أعضاء لجنة المؤتمر، ومعظمهم أوروبيون، إلى القبول بإدخال الآلات الغربية إلى الموسيقى العربية، لأن الآلات "الشرقية" - وفق قوله - لا تناسب سوى التعبير عن الحُبّ والوله، في حين انتقد عازف الكمان والمنظِّر الموسيقي توفيق الصباغ من تخلّوا عن موسيقاهم الشرقية وتحيزوا إلى الموسيقى الغربية، معتبرًا إياهم جاهلين الجوهرَ العاطفي لتراثهم الموسيقي، مع اعترافه بتركيز الموسيقى الأوروبية على الكمال في تقنيات الأداء.
وهذه التصريحات، تؤكّد بحسب الراسي العنصر العاطفي في الموسيقى العربية، وإن كان يشوبها بعض السياسة من جانب الغرب، كما كتب إدوارد سعيد، الذي ينحو إلى أن الغربيين يعتبرون الشرق "غريبًا" أو مختلفًا إلى حدّ بعيد عن ثقافتهم، لكن ما حدث مع فيوتو والشدياق اللذين "سمعا بأذُنٍ عربية وعين مبهورة بالإنجازات الأوروبية" يمكن أن يؤكّد أن الموسيقى عمومًا هي عاطفية وتأثيرية في آن.
وينتقل الراسي إلى الحديث عن الصوفية والحداثة والنظرة إلى الموسيقى، مُعتبرًا أنّ الموسيقى في الصوفية الإسلامية طريقة للسمو الروحاني، كما مثّل الرقص طريقًا للوصول إلى الوَجد، وفي هذه الأيام يؤكّد الموسيقيون الجُدد أن "الفن إحساس"، و"الموسيقى مشاعر"، كما يتحدّث الموسيقيون عن حالة إلهام يعيشونها أحيانًا قبل العزف وفي أثنائه، والحفلات العربية تتّسم في الغالب بالتفاعلية مع ردات فعل المستمعين الواضحة جدًّا واللاإرادية.
يعود الكتاب إلى السجالات التي شهدها "مؤتمر الموسيقى العربية" في القاهرة عام 1932
ويرى المؤلّف أنّ التقدّم الأوروبي على جميع الصُعد أبى إلّا أن يترك أثرًا في الحياة الموسيقية العربية، فدُرِّست لدى العرب النظريات الموسيقية الأوروبية، واستُخدمت النوتة، وأُدخلت الآلات الغربية إلى "التخت" الشرقي ... إلخ. ومع الوقت اختفت أنواع كثيرة من الموسيقى المحلية، أو تحولت جذريًّا، وبات بعضهم يناقش أن التركيز العاطفي في الموسيقى العربية أمر ينتمي إلى الماضي. ورغم كل هذا، فإن البعد العاطفي لا يزال مسيطرًا وله تأثير قوي، وهو ما يلخّصه المفهوم العربي لـ "الطرب"، الذي يدل على مخزون موسيقي يرتبط مباشرة بالاستحضار العاطفي والحالة النفسية غير العادية التي تثيرها الموسيقى الطربية و"آلات الطرب" الخاصة بها، وبمعنى أدق "النشوة"، التي استخدمها كتابنا هذا لمرونتها وإمكان تعريفها، إذ أُدخِلت في بعض القواميس الإنكليزية - العربية باعتبارها أحد مرادفات "الطرب".
يدرس الكتاب الفترة من أواخر القرن التاسع عشر حتى اليوم. وبالنظر إلى تركيزه على موضوع "الطرب"، فإنه يهدف إلى تطوير فهم نوعي للموسيقى العربية التقليدية، في استكمال لأعمال أخرى أكثر عمومية حول موسيقى العالم العربي أو الشرق الأدنى.
وبحكم كون المؤلّف مؤديًا للموسيقى العربية على آلات "طربية"، مثل البُزُق والعود والناي، وانغمس في الإحساس العاطفي الموسيقي، فإنه يتحدّث عن الآراء والتجارب الفردية لكثير من صُناع الطرب ومستمعيه على نحو متوازن، ما جعله يلاقي بعض التعقيدات، كما واجهت أبحاثه تحديات تقريب ظاهرة "النشوة" الموسيقية إلى الأذهان، لأنها في الأساس ممارسةٌ وتجربةٌ حية، ونادرًا ما تُناقش بمصطلحات لغوية، وهي تشبه الحالة الصوفية التي هي فوق الوصف، ولذلك يعبَّر عنها عادة باستخدام الاستعارات. وأمّا حالات اقتران "النشوة" بمظاهر جسدية مفرطة تثير الاستهجان مثل استخدام المخدرات وغيرها، فقد جمع المؤلف بياناتها على نحو غير رسمي، من خلال تحقيقات طويلة ومركَّزة، باحثًا عن أسباب تصرفات جدلية لأناس "أحسوا" بالموسيقى.