تغيب عن السرد العربي رواية ساخرة تُحاكي التجارب الاستبدادية باسم "الاشتراكية"، بالعمق الذي غيّرت به تلك الأنظمة مجتمعاتها. أمرٌ نشعر، ونقرّ به، عند قراءة رواية الكاتب والشاعر الألباني بسنيك مصطفاي "طبل من ورق"؛ فالرواية الصادرة عن "دار الحوار" بترجمة عدنان محمد، تشيرُ إلى حياة سياسية عرفتها بلدانٌ عربية عديدة، وأنتجت نمطاً اجتماعياً وسلوكياً لدى مواطنيها.
تُمثّل رواية مصطفاي اقتراحاً سردياً جريئاً يهزأ بواقع أنتجه عمى الأيديولوجيا وعنفها، باستخدام نماذج قد نراها في أيِّ مكان يخضع فيه الفرد إلى سلطات تريد منه أن يبقى مُرتاباً حيال دوره. وقصارى جهد السلطات أن تجعل قيد الإنسان، قيداً ذاتياً. أن يصير المرء رقيبَ ذاته، وأن ينظر إلى نفسه نظرة تأتي من خارجه، مصدرها الحزب أو القائد أو جهاز الأمن؛ أي أن يُحاكِم المرء نفسه وفق مشيئة القائد أو الحزب.
الرواية أقرب إلى مُتتالية قصصية. ولا يقع القارئ بسهولة على المشترك في القصص التي تؤلِّف الرواية. لكن في النهاية، تصنع القصص حكاية متناغمة تقول جملة خلاصات عن "التجربة الاشتراكية" (بالأحرى عن دكتاتورية نظام أنور خوجا) في ألبانيا. أساساً ذلك التعبير الغامض، طبل من ورق، وانغلاقه على الفهم المباشر في القصص، أدّى دوره في تعدُّد معانيه، وهو حيناً يدفع الثقة إلى نفوس الشخصيات وحيناً يحطّمها، وفقاً للجهة التي تستخدمه.
اقتراح سردي يهزأ بواقع أنتجه عمى الأيديولوجيا وعنفها
وما إن يتأكّد للقارئ أنَّ التعبير هذا، طبل من ورق، هو المشترَك الوحيد بين القصص، إلى جانب شخصية أنور خوجا؛ الزعيم الشيوعي، والسكرتير الأوّل لحزب العمل؛ حتى يقع على اللقاء بينهما. ما من شك أنَّ الرواية عن سلطة التعبير التي تُتيح، لمن يُطلقه على الآخر، أن يتركه تحت سلطة الكلمات، وأن يجعله في موقع أدنى منه. إنَّها رواية عن خطورة الخطاب؛ بصفته خطاب الأعلى للأدنى.
القصص بلا عناوين، مجرّد أرقام، تبدأ مع حكاية تغيير هوية ألبانيا بعد سقوط المَلَكية؛ إذ يطلب أنور خوجا من أحد الشيوعيّين أن يُعيد تسمية الشوارع في العاصمة؛ كي ينال النظام الجديد اعترافاً دولياً، طالباً منه ألّا يجعل من مهمّته طبلاً من ورق. القصّة الثانية عن ذكرى الميلاد السبعين لستالين، وفيها يحذّر شيوعي عجوز لجنة الحزب، التي طلبت نصيحته، من أن تُكرّر معه حكاية الطبل من ورق. وكان العجوز، قد اقترح على اللجنة أن تهدي لستالين الرفيقة أمينة الشبيبة، كي تساعده على العودة شابّاً. وجاء اقتراحه من واقع شيخوخته هو. الحكايات كلّها عن "شيوعيين" يرتبكون أمام القادة، أمام أوامر مطلوبٌ منهم أداؤها من غير أن يفهموا بالضبط أدوارهم فيها. وفي هذا السياق من الارتياب، يتكشّف تفاوت ولائهم، فالولاء الأعمى لرجالٍ حمقى، هو المطلوب.
حتّى المهمات التي تُطلب من الشخصيات، لا تعدو كونها اختباراتٍ للولاء. ما تعرّيه الطفولة أيما تعرية، إذ عندما يهدّد الأستاذ تلاميذه بأنَّ من يلطّخ دفتره بالحبر يكون خائناً للحزب والوطن. ومع وقوع الحادثة مع إحدى التلميذات، وأمام خوفها وبكائها؛ يحرّرها الأستاذ من مخاوفها، ويعتبر أنّ رأس القلم هو الخائن، وأن العمَّال هم الخونة. لا تنتهي الحكاية هنا، بل تبدأ، بأن تتحوّل مزحته إلى طبل من ورق، حكاية تنتقل بين الأقاليم عن خيانة العمّال للحزب والوطن.
وفي عهد سلطة الشعب، نرى كيف تحوَّلت سلطة الشعب إلى سلطة من الإيهام؛ إذ يمكن لأيّ كان أن يتحوَّل إلى خائن، من غير أن يقع بالضبط على خيانته، ومن غير أن يستطيع تعريفها. المزحة التي أطلقها الأستاذ تحوَّلت في جوّ ارتيابٍ عام صنعته سياسات الحزب الشيوعي إلى حقيقة خطيرة. فالقصص تتعدَّى السخرية العادية إلى فداحتها، إلى قابليتها للتحوُّل إلى حقيقة.
حتى في الحيّز الشخصي، سرعان ما ينقلب المزاح عداوةً، كما في القصّة التي يُهدي فيها رفيقان بصلة متعفّنة إلى زوجة رفيقهما، تتحوّل الهدية إلى شقاق، ويتحوّل المزاح إلى صورة من صور القتل. وهذه أيضاً إحدى طُرق ميلان كونديرا (1929 - 2023) في تعريف الحياة في ظلّ الأنظمة الشيوعية. أمّا الموت فله حكاية أُخرى؛ إذ يتحوَّل موت ابنة أحد الشيوعيين إلى احتفاء، مع خطاب أنور خوجا للأب المكلوم في الإذاعة، يخرج الموت من حيّزه الشخصي المؤلم إلى الحيّز العام الاحتفالي الذي يحوّل كلّ شيء إلى مناسبة من أجل تحقيق مكاسب للحزب أو لـ"سلطة الشعب".
رواية عن خطورة الخطاب؛ بصفته خطاب الأعلى للأدنى
ربما أكثر القصص تميّزاً تلك التي يتبادل فيها أحدهم الدور مع الحزب؛ إذ يسمّي ابنه ماو تسي تونغ، تيمّناً بالزعيم الصيني. يتواصل مع السفير الصيني، ويعيش على نفقة الحزب بالحيلة، لولا أنَّ النهاية مؤكّدة، ويحدس بها القارئ مع موت الزعيم الصيني. لكن يبقى ذلك الغجري الذي جعل من عيد ميلاد ابنه السنوي طبلاً من ورق، بطلاً شعبياً؛ لكونه استطاع تبادُل الدور مع الحزب، وبدا أنَّه امتلك بالفعل سلطة الشعب؛ سلطة لم يمتلكها مَن أمضى حياته يخدم أفكار الحزب، حال الشيوعي المتقاعد الذي لم تفلح وساطته في إخراج ابن جيرانه من السجن بتهمة شتْم الدولة، مع أنَّه شخص مجنون، وإدانة الحزب له تساؤُل بارع، وهو: لماذا لا يدفع الجنون بالمواطنين إلى أن يمدحوا الدولة، لماذا يدفعهم إلى شتيمتها؟ وكأنَّما مديح الأنظمة الشمولية مرتبط بفقدان العقل حتى بالنسبة إلى ممثّليها.
حكاية "طبل من ورق" الألبانية هي حكاية "إبريق الزيت" اللبنانية؛ فالرواية مكتوبة، كحكاية غير مكتملة البناء، إنَّها حيلة، استعارة غامضة، يستخدمها الفنّ لغاية أُخرى. والرواية تقول إنَّ تلك الشخصيات التي وجدها مصطفاي بسنيك جاهزة للكتابة في الواقع، ليست شخصيات ذات طبيعة حرّة؛ بل هي شخصيات صنعها الحزب، إنَّها شخصيات مرتابة، خائفة، والفضاء الذي تعيش فيه فضاء فاسد. هذا كلّه، من جرّاء سلطة الخطاب الذي لا يقول شيئاً، وإنَّما يحدّد علاقات القوّة بين طبقات الناس.
* روائي من سورية
بطاقة
Besnik Mustafaj شاعر وروائي ألباني، من مواليد 1958. درس اللغة الفرنسية وآدابها في "جامعة تيرانا"، وعمل في الصحافة والترجمة، قبل أن ينخرط مطلع التسعينيات في تجربة سياسية نضالية أنهاها باستقالته عام 2017 من منصبه وزيراً لخارجية بلاده. صدرت له عدّة أعمال بين الشعر والسرد والمقالة السياسية. "طبل من ورق" هي ثاني رواية تصدر له بالعربية، بعد "ملحمة صغيرة عن السجن" التي صدرت في 2020 بترجمة إبراهيم فضل الله.