طللٌ في حيرة

19 يونيو 2022
عمل نحتي للفنان العراقي علاء بشير، من سلسلة "ملجأ العامرية" (العربي الجديد)
+ الخط -

طللٌ في حيرةٍ من أمره

جلس الشاعرُ، ذات عشيةٍ
يتأمل ديارحبيبته..
أكوامٌ من الحصى للخطِّ على الرملِ
وعظامٌ لغربانٍ نفقت في ديارٍ مهجورة
كثبانٌ تتثاءبُ، وناياتٌ عاطلةٌ عن الشكوى..

التقطَ، من بين الركام، حصاةً ميّتة
لينفـخ فيها شيئاً من روحه
فانبعثَ منها أنينٌ شـاحبٌ
وأقمارٌ مثلّمةْ..

تناول أحدَ النايات
فاستحالتْ يدهُ ريشةً للكتابة..
وصار الميمُ واليـاءُ غزالـينِ
يجرحان
الهواءَ..
ونظر إلى نفسه فإذا هو طللٌ
في حيرةٍ من أمره..


■■■


الشريفُ الشجيّ

أمسِ مرَّ الشريفُ الشجِيُّ
بلا جسـدٍ. ترفعُ الأرضُ
جثتها كيْ يمُـرَّ..

حزيناً بدا..
نافضاً فرطَ غيظٍ
عباءتهُ..
قلتُ: يا سيدي
أين ولّى زمـانُ الرضا؟

كان خِشْـفٌ شهيٌّ
يمسّدُ نبضَ الهواءِ بكفّـيّنِ
مترفتينِ..
كما الوهـمُ ملءَ اليدينِ..
كما زمنٌ مرهفٌ وانقضى
لم يقبّلْ سـوى كفّهِ
تاركاً للشريفِ الشجيِّ
حنينَ الحجازِ
وجمْـرَ الغضا..


■■■


جِبال الأسى

كيف أمكنكَ أن تنهضَ
 من رميم تلك اللغاتِ المتهالكة؟
كيف أُتيحَ لك ما لا يتاحُ لسواك
مِن صاغةِ الكلام:

أعني هذا الجمالَ الوعـر..
أعني قصيدتك التي شحنتها، حدَّ الاختناق،
بكوارثنا التي تتجدّد
كلّ يوم..

ماذا فعلت بنا أيها الشيخُ المتمرّدُ؟
لقد رحلتَ قبل أن ترى ممالك الخرابِ
وبعد أن تركتَ، لدى كلّ واحدٍ منا،
جبلاً من الأسى
يتمشّى معه.


■■■


جبرا إبراهيم جبرا

مرَّ كهلٌ فاتنٌ بالأمسِ
في درب الأميراتِ..
رأى بغدادَ في زاويةٍ من حلْمهِ الآفلِ
واليـأسُ على مقربةٍ منها يغنّي..
دمعةٌ عريانةٌ تسقط ُمن مسبحةِ اللهِ
وكهلٌ موجَعٌ يصغي:
هشيمُ الأسطواناتِ..
نساءٌ يتوهَّجْنَ بحبر اللذةِ الأولى..
وما تنثره اللوحاتُ من فوضى..
ومن عطرٍ إلهيٍّ..


■■■


حنينٌ عابرٌ للطوائف

إنه الدرويشُ العابرُ بين الثعابين
المسكونُ بقصائد الحنينِ العابرِ للطوائف
سـيّدُ الأنهـارِ التي كفّـتْ عن النحيب
بعد أن يبس فيها الماءُ
وأينعتِ الحجارةْ..

رأيته أمس:
وهو يصغي إلى المتنبّي
حين كان يودّعُ بلاداً
لا صديقَ بها..

مع دعبل الخزاعيِّ يداً بيدٍ
وهما يعبرانِ بين جمعٍ من الناس
دون أن يريا أحـداً..

رأيته اليومَ مع الشريفِ الرضيِّ
وهما يحملانِ، وحيدينِ،
جثمانَ عبد الرزاق عبد الواحد
الى قصيدته الأخيرة.


■■■


المركبة الأخيرة

لا ريشةٌ من آخر السربِ
ولا صدى المركبةِ الأخيرةْ..
يمضي إلى مدينةٍ
يعودُ من أُخرى..

وما يزالُ يرقبُ السماءَ دون طائلٍ
ويستفزُّ الأرَضِينَ السبْعْ
لا لغةٌ تسعفُهُ..
لا نبْعْ.


■■■


قد يهدأُ البحر

قد يهدأ البحر يوماً..
قد يعرّفني على خطايايَ..
يُهديني نصائحَهُ الهوجاءَ كالموجِ
هل أصغي؟
أأشكرُهُ على هداياهُ
ام أرثي لحكمتِهِ العمياءِ؟
هل زارني من قبلُ؟
لم أرَهُ..
تذكَّرَ الآنَ؟

يا للبحرِ..
يُطْلِعنا على خفاياه..
لكنْ بعد أن يصلَ
الغرقى
إلى 
القـ
 ا
ع.


■■■


ليلٌ من فضّة 

كم كنا بِدائيينَ..
ينمو القمرُ العالي
على مقربةٍ منّا نحيلاً، ليّناً
حتى إذا ما فاضَ منهُ
الليلُ
والفوضى
ارتديْنا، مثلَ أشجارِ الخرافةِ،
ثوبَهُ الفضِّيَّ..

كم كنا ملائكةً بِدائيينَ:
لا نهدأُ، لا نرتاحُ..
لا نغفو..
نرافقهُ إلى حقلٍ قصيٍّ مثلما حُلْم
قبالةَ كوخِنا المتعبْ
لكي نلعبْ..

ونُمضي
اليومَ
تلوَ اليومْ..
لا ليلٌ من الأوهـامِ..
لا قمرٌ بدائيٌّ يشاركنا
رغيفَ النومْ..


■■■


رحلة الشتاء والصيف

رحلتان اثنتانِ..
وأنت المعلَّقُ ما بين شمسينِ:
واحدةٌ تتوهّجُ من شدّةِ البردِ
قطعة ثلْجٍ تضيءُ عظامكَ..
واحدةٌ تتفحّـمُ ملءَ
العراءْ..

زمنٌ عزَّ فيهِ النبيّونَ..
لا بهجةُ الاكتشافِ ولا
رحلةُ النضْجِ..

ترحلُ ما بين وهمٍ وآخرَ
ما بين حُلُمٍ وآخرَ..
تلتفُّ بين يديك الرؤى
والصفاتْ:

أيُّ شمسيكَ أرفعُ؟
أيُّ جناحيكَ أدنى إلى القاعِ؟
أيُّ الخساراتِ أشهى؟
وأيُّ الجهاتْ؟


■■■


أنينُ المغنّي

أين فاطمةُ من أنينكَ هذا؟
لماذا كففْتَ عن مناداتها فجأةً؟
ألأنّ قلبها الدافئَ،
مثلَ قطاةٍ،
لم يطاوعها للحاق بك؟
أم لأنّ صوتك القديمَ
لم يعدْ قادراً على
الغواية؟

ألَسْتَ الذي جعل الرعاةَ سكارى
وما هم بسكارى؟
ألَسْتَ الذي أنسى العشّاقَ طعمَ النسيان
ورائحة النوم؟
ألَسْتَ الذي أنْبتَ للصخرِ قلوباً
صالحةً للصهيل؟
فلماذا ظللْتَ وحيداً 
تئنُّ أنينَ المثخنِ بالطعنات؟


■■■


شمسٌ تُجالسه آخر الليل

مثل نهرٍ أشيبَ
مثل نهرٍ في أوج طفولتهِ
يضع رأسَهُ على صخرةٍ وينام
بعد أن تورّمتْ قدماه..
وبعد أن بدّدَ عمراً كاملاً
بين الكتبِ
والباراتِ
والمنافي..

قبل أن تغلقوا عليه البابَ..
وقبل أن تتركوهُ
وحيداً
ضعوا عند رأسه
شمساً صغيرةً
علّها تجالسُهُ آخر الليل
وجهازاً يحرّضُ قلبَهُ
على الرفيف.


■■■


مِحنة التسمية

جـاؤوا كما الليل..
سيلٌ معتمٌ، وحصىً، وطارئونَ..
أهالوا كلَّ أتربةِ البلادِ فوقيْ..
لصوصٌ يهبطونَ على
خزائنِ اللهِ..

اسمي لم يعـدْ أبداً وقْفاً عليَّ:
أراهُ اصفرَّ من فرطِ
العذابِ..

يتوقُ
يختضُّ
يعلو
يقشعرُّ
لِما يجري..

مرابونَ من أقصى
الخراب أتوا..
كم زاحموني على اسمي، كنتُ
أدفعهم بقشّـةٍ، بعذابِات البلادِ،
بما يخبّئ النصُّ
من فوضايَ
أو حلُمي..

يوماً
سينهدّ
هذا
الليلُ..
ثمة نسيانٌ يجيءُ
كما الطوفـانُ يكنسُ أسماءً
وأرصدةً
وطارئين.


■■■


معجزة الليل

يصنعُ الليلُ قهوتهُ من حنينٍ
إلى بلدٍ لا يغيبُ
ولا يتعافى..
وحيث القصيدةُ، معجزةُ الليلِ
جمعٌ لما يتعصّى على الجمعِ:
نعصرُ من سهرٍ لذةً..
من تأوّهِ أفعى
طريقاً
إلى
جنةٍ..

حيث لا سكْرَ في السكرِ
لا بلد يتعافى من الموتِ
إلّا بموتٍ أمَرْ..

القصيدةُ
باديةٌ من بوادي السهرْ..
محضُ مملكةٍ للتضادْ
إنها النارُ
حلمُ الرمادْ..
فرسٌ تتبخترُ في النومِ..
هاويةٌ يتبادل فيها المحبونَ أيامهم
ويجيءُ إليها المجانينُ من كلّ حدْبٍ،
وكلٌّ ينادي كثيباً من الرملِ
أو موجةً تتلاشى..

القصيدةُ طَرْقٌ حميمٌ
على معْـدِنِ الكونِ
يوقظُ حتّى الأصمَّ..
ومسرى الكفيفِ على ضوءِ
عكازةٍ معتمةْ..
هي أنثى الخساراتِ أجمعِها:
بيـدٍ تستعيدُ طفولتنا،
وبأخرى تضيءُ تجاعيدَنا المبهمةْ


■■■


الفصل الأخير

يا أشقّاءَ روحي اللدودين
أكنتم خطيئتي التامّة
أم أمجادي التي لم تكتملْ؟
وهل أنجبتنا لحظةُ السواد ذاتُها؟

ها نحن وجهاً لوجهٍ..
في هذا الفجر المشحونِ
بالبرد
والشماتة..

تحدّقون فيَّ وأنا أعتلي الخشب
محدّقاً في نفوسكم المذعورة..
وقد أثقلها ظلامٌ قديمٌ
لا يمكن تجفيفه؟

ها نحن في لحظة الموتِ الكبيرةِ هذه
نحدّقُ معاً في بقعةٍ شديدةِ الضيق
لا مجالَ فيها لندمٍ
أو اعتذار..

ما أفدحَ الشبهَ بيننا في هذه اللحظة:
أخوةٌ أنجبتهم رحِـمٌ سوداء
واحدة..

ثمّة حاجةٌ قاسيةٌ للندم
وثمّة حاجةٌ أقسى للانتقام
غير أنّ كلاً منّا
يصنعُ الآن
نهايةً
تليقُ
به.


■■■


لحظة تاريخية

لمَن يُصنعُ هذا الموتُ؟
مَن يَصنعُ هذا الفرحَ الأعمى؟
ومَن يركزُ في وحْلِ الظهيرةِ
سيفَهُ؟ يُصغى إلى فوضى
دوافعِهِ؟

يرى كفـّينِ من ندمٍ..
وثمة فِطْرَةً
بيضاء..

جمْعانِ عصيّانِ على التصديقِ:
بطشٌ فائضٌ عن قدرةِ الموتى..
ويتمٌ مطلقٌ يكفي قروناً من أناشيدَ
وجلّادينَ
من ندمٍ وبكّائينَ..
 
مَن يختارُ في هذا العراءِ المرِّ؟
مَن يخذلُ، مَن يعتزلُ الآنَ؟
بمن يشمتُ؟
جمعٌ يُبدعونَ الضوء والذكرى
وجمعٌ يخنقونَ المـاءْ.


* قصائد مختارة من مجموعة الشاعر الأخيرة "فراشاتٌ لتبديد الوحشة" الصادرة عن دار "خطوط وظلال"



بطاقة

شاعر وناقد وأكاديمي عراقيّ من مواليد 1945، حاصل على دكتوراه في النقد والأدب الحديث من "جامعة إكستر" البريطانية. عمل أستاذاً في العديد من الجامعات العربية. صدر له أحد عشر كتاباً نقدياً، ومن أعماله الشعرية العديدة: "لا شيء يحدث، لا أحد يجيء" (1973)، و"فاكهة الماضي" (1985)، و"سيّد الوحشتين" (2006)، و"ذاهـبٌ لاصطياد الندى" (2010)، و"طائر يتعثّر بالضوء" (2018)؛ كما صدرت أعماله الكاملة في أكثر من طبعة.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون