استمع إلى الملخص
- يتميز الكتاب بتحول الشاعر من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر، مما يعكس جرأته في استكشاف أبعاد جديدة للشعر، حيث تتداخل عناصر النقد والحوار والتأمل.
- يتجاوز الشعر في "ظل الظل" حدوده التقليدية ليصبح مجالاً للتفكير والنقد، مع دمج الحِجاج والحكمة، مما يضفي إيقاعاً خاصاً يجمع بين الشعر والنقد.
"ظلّ الظلّ" (دار الرافدين، 2024) هو الكتاب الخامس للشاعر حسن عبد الله. إنّه، وقد صدر بعد رحيله، يختمُ عملاً لا يقاس على قليله، ولا يُعتد فيه بعدد الكتب. لم ينجز حسن عبد الله سوى أعماله الخمسة هذه، لكن من يعرفون حسن عبد الله الشاعر، عن قرب، يعرفون أنّه جعل الشعر همّه الأوّل، وأنه لم ينفك عنه في يوم، ولم يجد له بديلاً، أي بديل، بل يعرفون أيضاً أنّه بقيّ على موعد يوميّ مع الشعر، وأن قلة إنجازه فيه لا ترد إلى شيء بقدر ما ترد إلى احتفائه به، مغالبته له، وسعيه إلى أن يكون أجدّ في كل عمل، وإلى أن يكون في كل كتاب قصيدةً أُخرى وأسلوباً ثانياً، وصوتاً جديداً عليه وعلى الشعر. كان هكذا يعود آخر في كل ديوان، وليس ديوانه الأخير الذي بنى عنوانه على عنوان رابعه "ظلّ الوردة" سوى مثل على ذلك.
قارئ حسن عبد الله المثابر يجد، بلا شك، مسافة بين كلّ ديوان وتاليه. كان "الدردارة" غير "أذكر أنني احببت"، كما كان "أذكر أنني أحببت" غير الشعر الذي كان بعده يختطّ لنفسه طريقه إلى الحداثة. لا بدَّ أن "راعي الضباب" و"ظلّ الوردة" لن يحولا دون أن يجد القارئ في "ظل الظل" عملاً جديداً.
في هذا الكتاب، عينٌ أخرى وعبارة أخرى وقصيدة أخرى ونموذج ثانٍ. هذا الكتاب الذي يبني على عنوان سابقه، يبتعد عن سلفه هذا اثنتي عشرة سنة. فيما ابتعد "ظل الوردة" عن سلفه "راعي الضباب" ثلاث عشرة سنة. بين كلِّ كتابٍ وسابقه ما يزيد على عقدٍ من السنين. عقدٌ ينقضي، رغم ذلك، في طلب الشعر وتقصّيه.
قصائد تنزع إلى النثر الخالص وإلى المحاكمة الفعلية والمنطقية
الغريب أنّ كل جديد يأتي لا من تجربة أخرى ونمط آخر فحسب، بل إنّه مغامرة مختلفة وأداء مختلف. يكفي أن نعلم أن "ظل الظل" قصائد نثر. هذا الشاعر الذي بدأ بسليقة عمودية ينتهي إلى قصيدة النثر. قد نفهم من ذلك حجم المغامرة الشعرية لديه، والمسافات التي قطعتها هذه القصيدة التي ترسم في كل عمل رؤية خاصة، بل ومن دون تعمّد، بناء له هو الآخر عالمه وأسلوبه.
في "ظل الظل" يغتذي الشعر مما يبدو له في أصله، بل هو، وإن انطوى عليه، أوسع منه. يمكننا القول إننا هنا في مجال النقد، نبدأ من الحبّ، ننعطفُ إلى تضاعيف الحياة، وإلى أطروحاتها الكبرى، وإلى الشعر نفسه. نحن هنا في مسار من المقابلات والتناقضات والتفاوتات، بل والأحكام والتأمّلات والارتدادات التي تنقلب فيها الأشياء على نفسها، وتتحوّل إلى عدمها، وتنفي وتنتفي.
الشعر هنا ليس شعراً فحسب، نظلّ طوال القراءة نتلمّح فيه ما يتجاوزه أو يفيض عنه. نحن هنا نصل إلى الشعر عن طريق لا يُغفل الحِجاج والجدل والمنطق، بل لا يغفل المثل والحكاية والحكم والحكمة. لا يغفل ذلك، ويحتفظ له بسِمته ونسقه، وربّما لغته. مع ذلك، فإن هذه العملية تتقصّد أن تنفي المادة وتعرضها للتضاد والمفارقة واللعب؛ ما يجعلها تحتفظ بحدّتها وسريرتها وإشراقها وبكوريتها. بل، وهي تنتمي إلى الفكر، تحفظ ما للفكر من التوقّد والتألق والمعادلات الداخلية والإشراقات والحيرة والقلق. أي إنّها تنزع عنها ما يعود إلى النثر الخالص وإلى المحاكمة الفعلية والمنطقية، ما تبقى معه ظلّاً حقيقياً وخيالاً وميزاناً ثاقباً ودمغة داخلية. أي أنَّ الفكر هنا يوازي الشعر، بل ويناظره ويؤدّيه. يغدو حاملاً له، بل ويوغل في ذلك كلّما طغت السخرية عليه، وكلما بدا نقداً خالصاً للحياة والوجود والإنسان والعالم.
السخرية هنا تصل بالحرارة والعصب، اللذين يقتضيهما الشعر. إن لها ذلك الإيقاع الذي لا يبعد عن الشعر، بل يستبدله من قريب وبعيد. كذلك، تغفل الحكاية أنها تنبني من واقع قريب من لحظات عائمة، هكذا نقرأ أفكاراً غدت ذكريات ونسائم وأبياتاً:
الأنسام التي تتدافع من جهة البر
وتتغلغل في شجر الحور
المكتظ بالعصافير المغرّدة
تجعل أوراق الشجرة ترتعش
بحيث لا نستطيع أن نميّز
إذا كانت العصافير هي التي تغرّد أم الأوراق.
* شاعر وروائي من لبنان