عالم في ظلام

22 أكتوبر 2024
احتجاجات ضد قمة مجموعة السبع في نابولي، 19 تشرين الأول/ أكتوبر، 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الحاجة لاستئناف التنوير ظهرت لمواجهة التحديات الجديدة والحد من السلطة الروحية، لكن التنوير واجه تناقضات في تطبيق الحريات الفردية بسبب الخوف من النساء المبرقعات وانتشار المساجد.
- العنصريات والغرور الثقافي عرقلت جهود التنوير، مما أدى إلى فرض قيود على الحريات الدينية والثقافية للمهاجرين واستعادة التراتبية العرقية.
- الغرب يدافع عن قيم التنوير كقيم خاصة به، مما ينعكس في سياساته تجاه الشعوب الأخرى، مثل الدعم العسكري لإسرائيل، ويؤدي إلى نقص العدالة والإنسانية.

مراراً ما أحسّ الغرب بعدما تجاوز عصر الأنوار ودخل في طور الحداثة وما بعد الحداثة بالحاجة إلى استئناف العصر الذي تجاوزه منذ أربعة قرون، ثمّة ما فات أو التبس على دعاة الحداثة، وكأن الحداثة عقلانية متقدّمة تتذرّع إن لم تتقنّع بالعقل، أو تتلاعب به، على الرغم من أن النور، أو كثرة الأنوار، أصبحت تعشي العيون، أو أنهم أسقطوا التنوير من حساباتهم، وربما الشكوى المبطّنة من هجمة الأنوار الساطعة. 

في الحقيقة، كان التنوير مع الحدّ من السلطة الروحية، ومؤيداً لإطلاق الحرية للعلم، واستطاع حلّها على الجبهتين، لكنه استعاد عداواته القديمة، وإن بدت أشبه بالمهزلة، والتي باتت مع الملابس في زمن يشجّع على العري، والخشية من النساء المبرقعات، وضدّ انتشار المساجد واللحى الواردة من بلدان كانت مستعمَرة، وإذا كان في تشريع قوانين تمنعها انتصار على الظلام لحساب النور، والأهم الحداثة، لكنه وجد نفسه ضدّ الحريات بأبسط مظاهرها. تُرى هل الحداثة هشّة إلى هذا الحدّ، مع أن الانوار رفضتها بحجة الحرية الفردية؟ 

وإذا كان الإلحاح على استئناف التنوير قد بات وارداً، فقد اشترط ألّا يُعنى بتكرارها، أي لا تعود كما كانت بالضبط، وإنما الأخذ بالاعتبار أن الزمن تخطّاها، كانت تحت أضواء الشموع والمصابيح، فلم تمنعها من استعمار الشعوب. لا بدّ من تحسينات، مع عدم إهمال إنجازاتها، خاصة بعد اختراع الكهرباء، نعم للتنوير، لكن بالاسترشاد بحداثة غامضة.   

تخصّصت ألمانيا بالإبادة وها هي تعيد الهولوكوست في غزّة
 

انبعثت دعوة استئنافها من خلال الاعتقاد بتصورات بات لديها جواب عن كل سؤال، وحلول لما تعانيه من مشكلات اقتصادية ومالية وسياسية، كانت السبب في تعثّر ديمقراطيات أوروبا وخساراتها في صناديق الانتخاب، فالديمقراطية فقدت بريقها ولم تعد مرغوبة كثيراً، إزاء جاذبية العنصريات والغرور الثقافي، الكفيلة بازدراء المهاجرين. بات العمل على فرض الغرامات على المبرقعات، ومنع تلميذات المدارس من ارتداء الحجاب... إذا كانت هذه الإشكالات لم تطرح في عصر الأنوار، فهذا يعني أنه ينبغي ألا يكون لها وجود أصلاً، لا كمسائل مطروحة، أو مشكلات يتطلّب حلّها، وإنما كبشر لا حساب لهم، يجب دمجهم بإخضاعهم أو التخلّص منهم، فاستعيدت التراتبية العرقية، وإغراء الفاشيات، والتعسّف السياسي والتعصّب والشعبوية واللّاعقلانية وتفوّق العرق الأبيض.

يدعونا الإنصاف إلى القول إن الغرب ما زال يدافع عن قيم التنوير وأفكاره، وإن تقدمه على جميع الأصعدة لا يشكّك باحتفائه بالنزعة العقلانية والمساءلة الحرة والتنوع الخلّاق، والفصل بين الديني والدنيوي، وعدم القناعة بأن الماضي لديه الجواب عن إشكالات الحاضر، والإيمان بقدرات الإنسان.

بيد أن ما يلاحظ في هذا الذي يجري في العالم حولنا، أن الغرب يعتقد بأن الأنوار خاصته، ولا تشملنا، حسب قوله "نحن لسنا هم". فهو يستحقّ الحرية، بينما لا نستحقها، لذلك تتصرّف دوله وكأن شعوبنا لا حساب لها، ففي هذه الإبادة التي تجري في بلادنا، خاصة فلسطين، تزوّد أميركا "إسرائيل" بالسلاح والذخائر من دون أي منطق إنساني أو أخلاقي، سوى أنها تعامل الفلسطينيين بالإبادة كما عامل أجداد الأميركيين الحاليين الهنود الحمر. أما ألمانيا فيبدو أنها تخصّصت بالإبادة، مثلما فعل "المُلهم" هتلر بالهولوكوست، يعيدون الكرّة في غزة، كذلك البريطانيون لا يقلّون أبداً عنهما، فالإبادة أدّت دورها في مستعمراتهم.   

لا يشكو الغرب من فائض الأنوار، لكنه لا يكفي، ما ينقصه هو الضمير والإحساس بإنسانية الإنسان، وحقّه في العدالة، وهو ما يُتيح للأنوار ألّا تكون مصطنعة، النور إن لم يكن حقيقياً فهو ظلام. 

اليوم، العالم في ظلام.

 

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون