في عام 1970، أطلقت مجموعة من الفنانين الذين أتى معظمهم من عالم المسرح فرقة موسيقية في الحي المحمدي بمدينة الدار البيضاء سُمِّيت بـ"ناس الغيوان"، حيث ستشكّل في عقدي السبعينيات والثمانينيات أبرز حالات الانتقاد السياسي والاجتماعي في فترة كان القمع والاستبداد عنوانها الأساس.
مؤلفات عديدة تناولت تاريخ الفرقة التي جالت في فنون شعبية لم تحظ بالاهتمام آنذاك ومنها العيطة وكناوة وعيساوة والأغنية الصحراوية، وسعت إلى إعادة الاعتبار لآلات موسيقية تقليدية أهمها الطبل والهزاز والبندير، ومن هذه المؤلّفات ما نشره أحد مؤسسيها عمر السيد في كتاب وثّق خلاله أربعين عاماً من موسيقى مثّلت الهامش وحفظت ذاكرته.
"ناس الغيوان.. خطاب الاحتفالية الغنائية" عنوان الكتاب الذي صدر حديثاً للكاتب والمترجم المغربي عبد الله الحيمر عن "دار الأمير للنشر" في مرسيليا، ويضيء المرجعية النصية والتاريخية للاحتفالية الغنائية في المشروع الموسيقي والحضاري للمجموعة.
يطرح المؤلّف تحليلاً جديداً لمفهوم الاحتفالية الغنائية عند المجموعة في خطابها الديني والوضعي من خلال مقاربة خصائص محاورها في الهوية والنسق الاجتماعي والطقوس، وكيفية تشكّل المعادلة الموسيقية في الإنصات للذات المغربية، التي وجدته بالشعر الشعبي الزجلي والصوفي الشعبي، مشيراً إلى الدور الذي لعبته المجموعة "في الإجابة عن السؤال المعرفي؛ كيف تشكلت الهوية المغربية/ العربية؟ فخرقت هذه الموسيقى الشعبية التي فخخت بمدن حكماء مدن الصفيح، وفكّت الحصار والانعزال الوظيفي والنفسي والاجتماعي والروحي الذي ضرب على الذات المغربية المهمشة من طرف سدنة الحداثة الملتبسة".
في تقديمه، كتب المسرحي الجزائري محمد بويش: "هكذا أريد أن أكتب مقدمة لصديقي الفذ الكاتب والمترجم المغربي عبد الله الحيمر، الذي يجرّ تجربته الكتابية عن الغيوانية إلى العمق، إلى السر الدفين في العلاقة الصوفية والبعد الطربي والثوري والإيقاعي. في سدّ فراغ المتلقي وحمله إلى المنصة، وبالتالي إعادة بعثه من جديد صافي الذهن ومتحرراً من رعونة المنفى الإجباري الذي يحاصره؛ من صعوبة العيش، والتأقلم مع محيطه الاجتماعي".
يقول الحيمر في كتابه: "صرخوا صرخة الاحتفالية الغنائية؛ ليعيدوا التوازن النفسي لمخيلة شعب بأكمله. كسروا حاجز الصوت، بالحكمة والكلمة الموزونة، وبالإيقاع الشجي، كانوا منارات تهتدي بها الطبقة المهمشة والمسحوقة في ظلمات الروح، وتكسر الأفق المسدود، وتزرع بذور الأمل والفرح في جسد الذات المغربية. فتحوا أبواب الاحتفالية الغنائية نحو نداءات المستقبل المؤجلة".
كما يدرس الكتاب تجربة "ناس الغيوان" بوصفها الظاهرة الحداثية الموسيقية التي لم تمثل قطيعة مع الممارسة الفنية للتراث الشعبي المغربي، بل خلقت جسراً تواصلياً معه ونقّحته بروح العصر دون القطيعة الإبستمولوجية معه، وقصدت تغييراً ثورياً بالحضور والتأثير والفاعليّة في التّراث، دون التجرّد من المضامين الكبرى لهذا التراث القولي الشعبي المغاربي.