"على شواطئ النار".. أشياء العالَم الأصلية

30 يونيو 2023
"السكّين الأسود" للرسّام الأميركي جون ميكس ستانلي، 1846 (Getty)
+ الخط -

من التواصل الأوّلي مع الأشياء، من العلاقة الحميمة مع كلّ ما هو طبيعي، من الخيط الرفيع الذي يربطُ الإنسان الأوّل مع عناصر الطبيعة الأُولى قبل أن تُفسدها الحداثة، ينهض كتاب "على شواطئ النار: قصائد لشعراء من الأمم الأصلية للولايات المتّحدة الأميركية"، الصادر عن "دار خطوط للنشر والتوزيع" (2022)، والتي اختارها وترجمها عن الإنكليزية الشاعر والمترجم السوري أسامة إسبر.

كثيراً ما يشعر الإنسان بأنّه بحاجة إلى أن يتحدّثَ مع أحد أو شيء خارج نطاق الكتب، خارج العقل، وخارج العِلْم. مع شجرة، أو حجر، جبلٍ، أو نهر. في مثل هذه اللحظات، يشعرُ أنَّ فكره ليس في رأسه وحده، وإنّما في جسده كلّه. وقد يكون، أحياناً، أكثر حضوراً حتى في القدمين منه في الرأس. يشعر أنَّ الفكر هو تلك الوحدة العميقة بين جسدين، لا بين فكرتين؛ يشعر أنّه في حاجة إلى الاتحاد مع موجة، على سبيل المثال، أكثر ممّا هو في حاجة إلى الكلام مع إنسان.

هكذا يتأكّد له أنَّ الحقيقة، في مثل هذه اللحظات، لا تجيء من الخارج: الكتاب، أو الشرع، أو القانون، أو الأفكار والتعاليم، بل تجيء من الداخل، من التجربة الحيّة، من الحبِّ، ومن الطبيعة، ومن التواصل الحيّ مع الأشياء والكون. بهذا المعنى، فإنّ قصائد شعراء الأمم الأصليّين للولايات المتّحدة الموجودة في كتاب "على شواطئ النار"، هي عودة إلى هذا الشعور، وإلى هذه الحاجة للحديث مع الطبيعة، وللإحساس بالحبّ، وللتواصل الحيّ مع أشياء العالَم الأصلية التي خرّبتها التقنية والحداثة.

قصائد منفصلة عن تيارات الشعر المتلاحقة في الغرب

لا يتردّد إسبر، في المقدّمة التي افتتحَ بها مختاراته مبرّراً دوافعه إلى الترجمة، في التمييز بين نوعين من المختارات الشعرية؛ الأُولى التي تَحدثُ داخل اللغة الواحدة، أي اللغة الأم، وهي التي عادةً ما يضعها المرء انطلاقاً من ذائقته الشعرية وممّا يراه متميّزاً في النتاج الشعري من أجل إبراز شعراء مُغْفَلِين أو منسيِّين، أو تأكيداً لاتجاه شعري وأسلوب جديد في الكتابة الشعرية. أمّا المختارات الثانية، وهي موضوع هذا الكتاب، فهي التي يضعها المرء من آدابٍ أُخرى مكتوبةٍ بلغات أُخرى، وهي في اللغة الإنكليزية في هذه الحال.

هنا، تحديداً، يقول مترجم "ذاكرة النار" لـ إدواردو غاليانو: "إنَّ هدفي من وراء هذه المختارات شعريٌّ وتضامني: شعريّ لأنّ شعر الشعراء المنحدرين من السكان الأصليين عميقٌ وغنيٌّ ويضمُّ أسماء تتوزّع على رُقع جغرافية كبيرة في الولايات المتّحدة الأميركية؛ وتضامنيُّ لأن الشعوب التي تمتلك ثقافتها الخاصة وأساطيرها ونظرتها إلى الكون، أُبيدت وهُمِّشت واستُهدفت وحوُربت واستُولي على أرضها وحُجزت في المحميّات، لكنّها وجدت في الشعر طريقة للتعبير عن هذا الظُّلم التاريخي الذي تعرّضت له".

على شواطئ النار - القسم الثقافي

يسلّط الكتاب الضوءَ على أهم الأصوات الشعرية من السكّان الأصليّين، التي وكما يشير جامعها، جاءت بعدَ بحثٍ طويلٍ ومتابعةٍ داما قرابة ثلاث سنوات، حيث اختار الشاعر والمترجم السوري القصائد التي تُؤلِّف الكتاب على أساس قراءته دواوين ونصوصاً منشورة في مجلّات ومواقع كثيرة منذ استقراره في الولايات المتّحدة عام 2012، ولكنّه اعتمد بشكل رئيس على أنطولوجيات معروفة، منها "أنطولوجيات شعر السكّان الأصليّين في القرن العشرين"، والتي أعدّها وحرّرها الشاعر دوان ياتوم، والأنطولوجيا التي أعدّتها وحرّرتها الشاعرة جوي هارجو بعنوان "حين أُخضِع ضوء العالم جاءت أناشيدنا: أنطولوجيا نورتون لشعر أمم السكّان الأصليّين".

ويحاولُ إسبر، من خلال القصائد والشعراء الذين اختارهم، أن يُقدِّم فكرةَ الإنسان المُبدِع القادرِ دائماً على التعبير عن نفسه. فإذا ما أخذنا بعين الحُسبان أنَّ لغات السكّان الأصليّين لأميركا قد انقرضت، أو بالأحرى جُبَّت ولم تعد وسيلة تعبيرية، وفُرضت الإنكليزية عليهم في النظام التعليمي، فإنّ الشعراء الموجودين في هذه المختارات لم ينغلقوا على أنفسهم، بل عبّروا عن أنفسهم بالإنكليزية. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل استخدموا الإنكليزية وكأنّها لغتهم الأم، فشحنوها بألوانهم الخاصّة بهم، وأضافوا عليها شعريّتهم الأصلية، لدرجة أنَّ القصيدة التي كتبوها لم ترتبط بتيارات وحركات الشعر المتلاحقة في الغرب بعامّة وأميركا بخاصة. كلّ هذا لأنّهم عرفوا كيف يعبّرون عن همومهم وتباريحهم وأحلامهم وتنوّعات مدنهم وأممهم وأزمنتهم ونظرتهم إلى الشعر وطريقتهم في كتابته. ومن هذا التنوّع انبثقت شعرية، قد تكون تطوّرت على الهوامش في غرب الحداثة، لكنّها من دون أدنى شك، تتوهّج وتنفجر في الاتجاهات كلّها.

تعكس النصوص فكرة الإنسان القادر دائماً على التعبير عن نفسه

ضمن هذا المعنى، سيلاحظ القارئ أنَّ المختارات الشعرية المترجَمة تتّسم بالتنوّع الجغرافي والتباين الزمني، وتشمل شعراً سياسياً وتجريبياً، كما أنها تستلهم، في غالبيتها العُظمى، من تراث السكان الأصليّين، والمثيولوجيا الهندية المتأثّرة بالحداثة، كما سيلاحظ أنّ كلَّ شاعرٍ له قصيدته الفريدة وخصوصيته الشعرية التي يتفرّد بها عن غيره.

"بما أن شعر الهنود الحمر، أو السكّان الأصليّين لأميركا غير معروف في العالم العربيّ، إلّا عبر ترجمات فردية في المجلّات والصحف، قرّرتُ أن أترجم أنطولوجيا كبيرة تضمّ أهمّ الأصوات الشعرية من السكّان الأصليّين في الولايات المتّحدة الأميركية في خطوة للتضامن مع قضاياهم كشعوب مضطهدة، وللاحتفاء بشعرهم كمنجز إبداعي غني ومتنوّع. لكنّني لا أدّعي أنّ هذه الأنطولوجيا تمثيلية؛ بل محاولة فردية لإلقاء الضوء على نتاج أدبي عظيم ولا غنى عنه لتعميق المعرفة بالآخر، ولرؤية الآخر بعيداً عن الصور المسبقة والمعمَّمة، أي رؤيته ضمن تعدّديته واختلافاته خارج الرؤى التي يُروَّج لها أكاديمياً أو إعلامياً، أو تُصنِّف الآخر في خانة معيَّنة وتحوِّل أدبه إلى وثيقة أنثروبولوجية تُوظَّف في الدراسات الأكاديمية وما يتجاوزها، أو القابلة للتصدير بوساطة مركزية الآخر".

يُذكَر أنّ أسامة إسبر شاعر ومترجم ومصوّر فوتوغرافي سوري من مواليد 1963، يقيم في الولايات المتّحدة. ترجم قرابة أربعين كتاباً؛ آخرها "أيام فان غوخ الأخيرة" (2023) لـ آليسون ريتشمان. نشر في الشعر: "على طرقي البحرية" (2020) و"على ضفّة نهر الأشياء" (2021) و"قال لي جسدي" (2022)، وفي القصّة القصيرة: "السيرة الدينارية" (1996)، و"مقهى المنتحرين" (2003). أقام معرضه الفوتوغرافي الأوّل "طقوس العبور" نهاية العام الماضي.

 
المساهمون