ثمّة محاولات متفرّقة لإعادة كتابة تاريخ فلسطين ومحيطها وتحريره من جملة أساطير فُرضت بوصفها حقائق ومسلّمات، وخاصّة حيال الحقب التاريخية التي سبقت دخول العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي، والتي جرت قراءتها على نحو استنسابي يخدم الأهداف الاستعمارية للمشروع الاستيطاني الصهيوني الذي بدأت ملامحه الأولى منذ القرن التاسع عشر.
في كتابه "أرض الأجداد.. من الأزل إلى الأبد"، الذي صدر حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، يسعى الباحث الفلسطيني، علي حسين قليبو، إلى مواجهة إفراغ الذاكرة الفلسطينية من عناصر حيويتها وتعدّدها وقدرتها على الفعل في الحاضر، ويبدأ قليبو بالسؤال عن ذلك الحلزون الذي استخلص العموريون صبغته الأرجوانية وحملوه إلى العالم.
يشير المؤلّف إلى مصادر خمسة لبناء سردية لهوية فلسطينية تنبني على الرقميات الفرعونية والبابلية، والروايات التوراتية والآيات القرآنية التي يُستلهم منها الإطار العام لتاريخ جغرافيا فلسطين الاجتماعية والثقافية، إضافة إلى علم الأنساب العربي، والأنثروبولوجيا، وعلم الآثار وما يكشفه عن تخطيط المدن المندثرة.
وينطلق قليبو، بناءً على ذلك، في رحلته التي تستكشف معالم الهوية وعلاقتها بالأرض وارتباطها بالزراعة البعلية، التي لعبت دوراً مهمّاً في تكوين عناصر بنيتها في منظومة دينية واقتصادية واجتماعية وثقافية، في سرد يجمع بين العلم والبحث الميداني المستند إلى الصورة الإثنوغرافية الوثائقية، ضمن قالب مشقق من أدب الرحلات، بحسب المقدّمة.
سردٌ يجمع بين العلم والبحث الميداني المستند إلى الصورة
يقف المقدسي عند أوّل علاقة روحانيّة دينية سادت مع الثقافة النطوفية خلال العصر الحجري القديم في بلاد الشام، في إطار تطوّر النظام الزراعي قبل خمسة عشر ألف عام قبل الميلاد، مبيّناً أنّ "العلاقة الإيكولوجية مع بيئة فلسطين الطبيعية تمخّضت عن نشوء علاقة تصنيفية تجمع بين المتناقضات التي شيّدت عناصرُها مفردات البيئة الأولى في العقيدة الدينية الكنعانية... منها العالي/ المنخفض/، المقدّس/ الدنيوي، الذكر/ الأنثى، الطاهر/ النجس، البَرَكة/ اللعنة، والحلال/ الحرام".
شكّلت منظومة المكان العالي أساساً في العقيدة الكنعانية، حيث أُقيمت الأنصاب التي ترمز إلى الآلهة في أعالي الجبال، وقد تبوّأ إله الرعد والبرق والمطر، بعل، مكانة عظمى بينها، والذي عُرف في اللهجات الفلسطينية المحلّية عبر العصور بأسماء مثل "أدونيس" و"ذو الشرى" و"سالم" و"الحارث"، ونُسبت جميع الأراضي والمزروعات التي تعتمد على مياه المطر إلى بعل، وفق الكتاب.
صورٌ عدّة للأنصاب الكنعانية التقطها قليبو في تل عراد بالنقب، وتل أبو شوشة بالرملة، ودورا بالخليل وغيرها، وترتبط بمواسم الزراعة وهطول المطر، لتتبدّل صورة بعل ــ الذي قتل التنّين ــ بالقدّيس مار جرجس (الخضر)، راعي الفلاحين، في العقيدة المسيحية، وتظهر لاحقاً في المقامات التي كان يتبرّك الفلسطينيون بأصحابها ليأتيهم الغيث في طقوس تتكوّن من أناشيد ورقصات تعود مرجعياتها الأُولى إلى الكنعانيين.
ظلّت مفردات الحياة الزراعية حاضرة إلى اليوم بوصفها تعبيراً عن منظومة دينية، كما يفصّلها الكتاب في حديثه عن "الجرن" الذي تباينت استخداماته بين مدافن ومساكن وصوامع لخزن الحبوب والزيتون والتين، وهو يشير إلى الحصاد ومكان تقديم النذور إلى الآلهة الكنعانية، والبئر المخروطية (إجاصية التكوين) التي حملت قداسة مشابهة وحافظت على شكلها حتى اللحظة، وتلازمت البئر والجرن (مع شجرة مقدّسة غالباً) في معظم مناطق فلسطين.
ولفهم المنظومة الزراعية، ينبّه قليبو إلى جملة مفاهيم وممارسات مستمرّة منذ آلاف السنين، بدءاً من المقام الذي يمثّل قبر الجدّ الذي تنحدر العشيرة من صلبه وتتبرك به، إلى نظام الريّ، وتخزين الحبوب في الخوابي والبواكي (غُرف بمساحة 12 مترا مربعا وارتفاع ثلاثة أمتار، جدرانها مغطّاة بطبقة من الصلصال لعزل الرطوبة والحرّ)، والسقيفة (تُحفظ بها اللحوم والبصل والثوم المجفَّف والحبوب)، والمطامير (تُحفظ بها الحبوب أيضاً)، والحمار الذي لعب دوراً مهمّاً في تعزيز الإنتاج الزراعي، لذلك كان الكنعانيون يدفنونه داخل البيت، وغدا في المسيحية رمزاً للخدمة والمعاناة والسلام.
ثم يذهب الكاتب بعدسته إلى الكهوف التي احتضنت مدناً فلسطينية عديدة لا تزال آثارها ماثلة للعيان، حيث تتكوّن من "الطبابون" في ركن منعزل للطهي بجوار السقيفة، وتفصل مصطبة مرتفعة (بناء) بين مكان النوم والمعيشة التي تعيش فيه كلّ أسرة، إلى جانب مكان مخصّص للماشية، وتلعب الجدّة دوراً حيوياً في إدارة شؤون العائلات التي تجمعها قرابة الدم.
يخصّص المؤلّف الفصل الأخير من الكتاب لمناقشة الإرث الأدومي في عدد من مدن جنوب فلسطين والأردن، حيث لا تزال نقوشهم موجودة على مداخل بيوت في بلدات مثل الظاهرية والسمّوع، وفي معالم تاريخية بناها الملك هيرودس الأوّل، أحد أبرز الملوك الأدوميين، وفي مقدّمتها المعبد الذي تحوّل لاحقاً إلى الحرم الإبراهيمي في الخليل، وقلعة ومقبرة الحرد جنوب شرق بيت لحم.