نبعت فكرة هذه السلسلة من المقالات التحليلية، من واقعة حفّزتني لتناول قِيمة استضافة قطر "كأس العالم - 2022"، وعلاقتها بتنمية المجتمع والمدينة. إذ كنت قد كتبت على صفحتي في فيسبوك تعليقاً على صورتين التقطتُهما مؤخّراً في الدوحة تعطيان ملامح عن استعداد المدينة لاستضافة التظاهرة الكروية التي تنطلق بداية من 20 نوفمبر/ تشرين الثاني المُقبل.
وقد تساءل الكثيرون ما فائدة كلّ هذه المصروفات؟ أمّا تفسير ذلك فسأعمل على تقديمه عبر مقالات خمس، تهدف لبيان تمايُز التجربة القطرية، وإدراكها حتمية تجاوز تجارب حدثت في دول ومدن أُخرى، شعرت مجتمعاتُها بالإحباط بعد انتهاء تنظيم الحدث. فالقيمة الحقيقية لاستضافة حدث عالمي في مدينة ما، تتأتّى من الإجابة عن سؤال: كيف يخدم الحدث أهداف المدينة وخاصّة المستقبلية منها، وليس أن تخدم المدينة فعالياتِ الحدث في إطاره الزمني المحدود فقط (28 يوماً).
الطرح الأول: مليارات واستادات أم مراكز تنمية مستقبلية؟
أبدأ بمدخل متمايز للتعامل مع عمارة وعمران الملاعب الرياضية؛ ويعتمد هذا المدخل على اقتراح صياغة ذهنية وبنائية جديدة للملاعب التي تستوعب الأحداث الرياضية، والدورات المحلّية والإقليمية والعالمية، التي يمكن استضافتها في العالم العربي. ومن خلال هذه الصياغة الجديدة التي تعتمد على مجموعة مقترحات معمارية وعمرانية، يمكن أن يجري تجاوُز فكرة اللقاءات الرياضية، التي يصيغها الإعلام عادة كسلسلة من الصراعات، إلى أن تصير تفاعلات إنسانية تجري في فضاءات مكانية مخصّصة لتواصل الجماعات الإنسانية التي تنتمي لمجتمعات متمايزة محلّياً وإقليمياً وعالمياً. ومن هنا يمكن التفصيل في الاستعدادات الجادّة التي تتخذها قطر، لتحويل الملاعب إلى ملتقيات إنسانية اجتماعية بالمقام الأوّل.
إعادة صياغة الدور الاجتماعي والثقافي للملاعب الرياضية
بداية من الملاعب التي بُنيت أو طوّرت من أجل استضافة المباريات. كلّها انتهت بالكامل وأُقيمت بعض البطولات والمباريات التجريبية عليها، وهو غير مسبوق في البطولات السابقة، في أن تكون الدولة مستعدّة مبكّراً. فالملاعب موزّعة جغرافياً لتخدم مدناً أو بلديات أو مراكز عمرانية بعد انتهاء البطولة، وكلّ منها يتداخل مع المراكز العمرانية الموجودة في محيطها، وله برنامج للارتباط مع احتياجات المجتمع المحيط، فيصبح مكاناً للاحتفاليات والأسواق والتنزّه والتسوّق، وليس ملعباً لكرة القدم فقط.
كما ستُقلّل القدرة الاستيعابية للملاعب بعد انتهاء البطولة، بفعل استخدام أنظمة خاصة للمقاعد، وهذه التجهيزات ستُنقل إلى عدد من الدول العربية والأفريقية لعمل ملاعب وطنية مجهَّزة، لتكون استمراراً لإرث البطولة في دول أُخرى. على سبيل المثال "استاد رأس بوعبود" مصنّعٌ بالكامل من حاويات الشحن، وسيُفكّك بالكامل ليُعاد استخدام الحاويات.
كما أنّ كلَّ الملاعب لها علاقة بالسياق الجغرافي أو التاريخي أو الهوية القطرية والخليجية، عدا عن كونها ترشّحت من خلال مسابقات معمارية فاز فيها معماريون متميّزون مثل الراحلة زها حديد (1950 - 2016)، والمعماري البريطاني نورمان فوستر (1935)، والقطري إبراهيم الجيدة الذي وقّع "استاد الثمامة"، بهذا تستحيل كلٌّ من هذه الملاعب إلى علامة معمارية وتشكيلية بارزة في نسيج المدينة القطرية.
الملعب الرياضي بوصفه ملتقى إنسانياً
إعادة صياغة الدور الاجتماعي والثقافي والإنساني للملاعب الرياضية، هو جزء من التغيير المأمول لما هو عليه الحال في البطولات والأحداث العالمية. فعن طريق مناهج العمارة والعمران يمكن أن يتحوّل الملعب الرياضي من ساحة حرب، كما يُسوَّق له في الخطاب الرياضي الإعلامي، إلى مقصد يومي لأفراد المجتمع، يمارسون كلّ أنشطتهم خلاله، ممّا يكوّن علاقة انتماء متميّزة تُسقط فكرة التعصّب وتستبدلها بارتباط عميق بين الإنسان والمكان، ويتجاوز أي محاولة لفرض فكرة الصراع البغيض. إذن الملاعب التي أُنفقت عليها الملايين ستستمرّ لتؤدّي دوراً مهمّاً في مستقبل المدن القطرية وليس كملاعب فقط، إنّما عبر فكرة إعادة صياغة التصوّر المعماري والعمراني للملاعب الرياضية.
تلاءم تصميم الملاعب مع جغرافية قطر وهويتها التاريخية
هنا بعض المقترحات للتحوّلات المعمارية والعمرانية، والتي يمكن اتّباعها في تصميم الملاعب في الدول العربية لتحويلها من ساحات حروب رياضية محدودة الاستعمال، إلى ملتقيات اجتماعية ثقافية ترفيهية رياضية صديقة للبيئة مزدهرة بالحياة والتفاعُل الإنساني. من أهم هذه المقترحات أو سيناريوهات التعامل المَرن مع الإمكانات التوظيفية للملاعب: الملعب كحديقة عامة، والملعب كساحة احتفالية، والملعب كساحة رياضية للمجتمع، والملعب كمقصد للتسوّق والترفيه، والملعب كنطاق للتعلُّم، والملعب كحيّز للمهرجانات الثقافية.
عليه، فإنّ آلية الإنفاق على بناء الملاعب جاءت مؤطَّرة بالحاجة الشعبية لها بعد البطولة، وذلك من حيث تقليل الطاقة الاستيعابية، كما أنّ إنتاج هذه الملاعب اتّخذ صيغة العلامة المعمارية المتداخلة بنسيج الدولة. لتبقى الفكرة الأكثر أهمية هي مدّ الدول المحتاجة بالتجهيزات، والتي ستجعل شبابها يسعدون بممارسة الرياضة في ملاعب متميزة ومجهّزة. إن الملاعب الرياضية الكبرى في المدن العربية يجب أن يفعّل دورها اليومي والأسبوعي والشهري والموسمي، ليس من خلال المباريات الرياضية فقط، ولكن عبر تفعيل كلّ الأدوار الأُخرى أيضاً، التي تساهم في تجاوز صورة الملعب ساحة للمعارك، وإعادة صياغتها وتقديمها بصورة جديدة، تؤكّد أن هذه الملاعب هي ملتقيات إنسانية يستفيد منها كلّ أفراد المجتمع بمختلف فئاته وقطاعاته.
* معماري وأكاديمي من مصر