... وللاستيلاء على الأرض المقدَّسة التي وعدهم بها الرب كما هي في روايتهم التوراتية: أرضك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات، لا بدّ من حذف السكّان، ولا يتمّ الحذف إلّا بالتقتيل، والتهجير، وبكلّ أشكال الرعب المتخيّلة كما جاءت في نصوصهم التوراتية. أقول هذا لأنّ الدولة دينية بفترينة لائكية؛ هي دولة لليهود فقط، بما يعني أنّ حقوق المواطَنة تمرّ بالعقيدة الدينية، وإذا لم تكُن الأمّ يهوديةً فلا يتمتّع المواطن داخل هذه الدولة بحقوق المواطَنة. ولكنّهم سوقوا أنفسهم في العالم كدولة لائكية وديمقراطية، وكان بعض الحداثيين العرب أوّلَ من تلقّى هذه الكذبة وهم الآن من يشيطنون حركة حماس. ما يُمارَس اليوم في غزّة تطهيرٌ عرقي ديني، رغم ادّعاءات محاربة الإرهاب وبقية الضجيج الإعلامي.
التطهير العرقي هي الجريمة التي تأسَّس عليها الكيان، الجريمة المستمرّة منذ حوالي قرن من الزمان؛ الجريمة التي شارك فيها الغرب بالأسلحة وبالمال، وبالصمت الإجرامي، وبتزييف الرواية، وبالتغطية والحماية القانونية وبالفيتو على القرارات الدولية، وبالسماح للإسرائيليّين بعدم تطبيق أي من القرارات الدولية، بدءاً من عام 1948 إلى الآن، بما يعني واقعياً أنّهم، كما يصفون أنفسهم، "شعب الله المختار"، وأنّهم فوق البشرية وشرائعها وأحكامها.
والإسرائيليون لا يُخفون استراتيجيتهم للاستيلاء على كامل فلسطين، والتي تتمّ بالتهجير القسري، يعني بالإجرام، ويطلقون على التهجير الترجمة الإنكليزية "الترانسفير"، ويدعون باستمرار إليه كما لو كان أمراً عادياً؛ تصوَّر إنساناً يدعو إلى تهجير الشعب البلجيكي من بلده ونقله إلى فرنسا. يبدو الأمر شديد السريالية، ولكن تكراره في فلسطين حوّله إلى أمر عادي لدى الساسة الغربيّين، أمّا العرب، وباستثناء الفلسطينيين، فلم ينتبهوا إلى ذلك.
ما يجري محاولة تطهير عرقي هدفها إعادة تمركز الغرب في المنطقة
هذه الدعوة على "الترانسفير" في حدّ ذاتها جريمة يُعاقِب عليها القانون؛ جريمة مزدوجة: طرد الناس من بيوتهم وأراضيهم واغتصابها، وقتل من يبقى؛ وفي الآن استباحة أراضي بلد آخر لوضعهم فيه. والغرب الذي أنشأ وعد بلفور يتواطأ بالصمت، ويُصغي لهذه التصريحات الإجرامية من دون أن يرفّ له جفن بله إدانتها. وهو يصغي إليها كما لو كانت أمراً عادياً.
ما يجري اليوم في غزّة هو محاولة تهجير ديني توراتي، "ترانسفير" جديد بعد "ترانسفير" 1948، "ترانسفير" مغطّى بذريعة القضاء على حركة التحرير حماس التي مرّغتهم في الوحل. وبعد مضيّ أسبوع، انتبهت بعض الجهات الغربية ممّن أيّد العمليات العسكرية الإسرائيلية في الأيام الأُولى للحرب إلى التفاوت الكبير بين محاربة حركة حماس وعملية التطهير العرقي التي تجري بشكل مبرمج؛ وأنّ محاربة حماس ليست سوى أجندة السطح؛ وأنّ الأجندة الحقيقية، الأجندة التي يجري تنفيذها على الأرض من هدم البيوت والأبراج على رؤوس السكّان المدنيّين، وهدم المساجد والكنائس، وحتى المستشفيات على رؤوس من فيها، قصد التهجير.
هي عملية تطهير عرقي مبنيّ على سردية توراتية تقول إنّ الله وعدهم بالأرض، وهدفها غير المعلن إعادة تمركز الغرب في المنطقة من خلال تشكيل شرق أوسط جديد تحت القيادة الإسرائيلية، يضمن للغرب إمداداته من الطاقة وسيادته على المنطقة في مواجهة روسيا والصين.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام