استمع إلى الملخص
- **العودة العالقة والمعاناة:** حجزت للعودة يوم الثلاثاء، لكن معبر رفح أغلق، مما جعلني عالقاً في مصر لمدة 51 يوماً. فقدت الاتصال بزوجتي وأطفالي الذين نزحوا إلى مخيم النصيرات، وعانوا من صدمات نفسية.
- **الحياة اليومية والصراعات المجتمعية:** في مواصي رفح، تحولت حياتنا إلى صراع يومي لتوفير الماء والطعام، وسط تدهور القيم المجتمعية وتنامي الصراعات بين النازحين للحصول على المساعدات.
كنت قد سافرت قبل أسبوع من اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة في رحلة علمية لجامعة قرطاج في تونس، وقد تحدد يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لأقدم فيه بحثا علميا حول سياسة الفصل العنصري الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، وفي ليلة الجمعة، أي قبل الحرب بيوم، كنت قد اتفقت مع زوجتي على الاتصال بي عبر الواتساب صبيحة السبت حتى لا يفوتني موعد المحاضرة.
أيقظتني زوجتي في الخامسة فجرا بتوقيت تونس وهي مذعورة تطالبني بفتح التلفاز، وتخبرني بأن المقاومة الفلسطينية قد اجتاحت السياج الحدودي بين قطاع غزة وفلسطين المحتلة 1948. فتحت التلفاز مباشرة، وأنا معها على الهاتف، وبقيت مشدودا لدقائق من الصمت ومراقبة الصورة على التلفزيون. وبعد برهة صغيرة، قلت لزوجتي استعدي للخروج من المنزل، حيث إن منزلي يقع في شرق مخيم جباليا، في منطقة تسمي بتل الزعتر، وقلت لها بوضوح : (راحت غزة)... اجمعي الأوراق الثبوتية وملابس لكم واتركي المنزل فورا، دون أن أقول لها إلى أين تتوجه.
توجهت لجامعة قرطاج وألقيت محاضرتي، والتي ذهب فحوى كل أسئلة الحضور حول ما يحدث في غزة، أنهيت المحاضرة على عجل وبدأت بترتيب الأمور للعودة لغزة بأسرع وقت قبل أن يتم إغلاق المعبر كما كنت أتوقع.
الشعور العام السائد بين النازحين بأنهم تركوا عرايا أمام ثلاثية آلة القتل الإسرائيلية وجشع التجار ولصوص المساعدات
كنت قد حجزت للعودة مسبقا يوم الثلاثاء، أي بعد ثلاثة أيام من اندلاع المقتلة، وبدأت في التفكير سريعا ماذا افعل وكيف أساعد أسرتي في الخروج الآمن والبحث عن الملجأ الأمن .. خلال تلك الفترة كان التفكير منصبا على التنقل بين بيوت إخوتي وأهل زوجتي ومدارس الوكالة، وبقيت أتابع طوال الوقت.
وصلت إلى القاهرة في طريق العودة، وكان معبر رفح قد تم إغلاقه، لأصبح عالقا في مصر لمدة واحد وخمسين يوما، كنت خلالها أحلم بأن يفتح المعبر لأدخل غزة والتقي بأطفالي وأهلي وأصدقائي.
فقدت الاتصال لقرابة الشهر تقريبا بزوجتي وأطفالي والذين كانوا قد نزحوا إلى المنطقة الوسطى، وتحديدا لمخيم النصيرات، وكانوا في مدرسة تابعة لوكالة الغوث، التي تحولت كما كل المدارس والأماكن العامة لمراكز أيواء للنازحين من شمال الوادي.
كنت أطمئن عليهم من خلال أخي بلال، الذي بقي مع والدي ووالدتي في شمال القطاع، دون أن أستطيع التواصل معهم، ولكن بعد أربعين يوما تقريبا تمكنت من محادثة زوجتي، التي أخبرتني بتفاصيل صعبة وقاسية ومؤلمة خلال نزوحها من شمال قطاع غزة إلى النصيرات مشيا على الأقدام وهروبها المتواصل هي والأطفال في ضوء القصف المستمر (الأحزمة النارية) التي مارستها دولة الاحتلال في جميع أحياء شمال الوداي، وكيف أن ابني وسام ذا الأربعة عشر عاما، وهو بالأصل طفل توحّد، قد فقد النطق نتيجة تعرضه لصدمة نفسية جراء تلك الأحزمة النارية.
كما أخبرتني عن واقع مأساة النزوح في مركز الإيواء، والمشاكل والأزمات التي تواجهها، خصوصا مع طلبات الأطفال في ضوء انقطاع البضائع، وبداية سياسة التجويع التي فرضها الاحتلال على سكان القطاع.
مع كل مكالمة كنت ألوم نفسي على عدم وجودي معهم للتخفيف عنهم أو مساعدتهم في مواجهة الظروف القاسية والمريرة، إلى أن جاءت اللحظة التي أنتظرها وهي فتح المعبر مع دخول التهدئة الأولى حيز التنفيذ يوم 25/11/2023، لتبدأ رحلة عودتي المنتظرة.
تلك الرحلة التي لم يوافقني الأصدقاء في القاهرة على القيام بها وحذروني منها، وطالبوني بالتريث والتحمل لحين استيضاح الصورة، ولكني رفضت.
لم أنظر للعودة من باب البطولة أو الفدائية بقدر ما كانت مشاعر الأبوة والمسؤولية الأسرية تفرض عليّ بقوة ضرورة العودة، وخصوصا أنه لم تكن لدي خيارات أخرى مثل سحب أسرتي لخارج غزة في ذلك الوقت، أخبرت أصدقائي بأن ظرفي الخاص وواقع أسرتي يفرضان علي ذلك.
وصلت إلى المعبر صباح 26/11/2023، لتبدأ مرحلة جديدة من الحرب معي، وهي مرحلة "العالق" في جنوب رفح، نجحت خلالها في نقل أسرتي من مركز الإيواء في النصيرات إلى مركز إيواء تابع لجمعية الثقافة والفكر الحر، وهو مركز يتمتع بخدمات مميزة ، إذ تتوفر فيه خدمات المياه والكهرباء والإنترنت.
مكثنا في هذا المركز حوالي شهر تقريبا قبل أن نغادره مضطرين مع اجتياح إسرائيل لمدنية خانيونس، وانتقلنا إلى منطقة مواصي رفح، في خيمة مصنوعة من الجلد والخشب بعدما فشلت في الحصول على خيمة من المساعدات التي تصل للمؤسسات في قطاع غزة.
كان انتقالي لمواصي رفح مع بدايات العام الجديد، لتبدأ معها رحلة جديدة ومعاناة جديدة، تحولت معها حياتي كما كل الناس لحطابين وسقاة، نصارع أيامنا في الوصول للماء الصالح للشرب من ناحية، وتوفير الحطب لإنضاج الطعام من أخرى، وانحصرت حياتنا في هذا النمط اليومي المستدام دون أفق لنهايته.
بدأت الخيمة تكشف أمامي مدى انكشاف عقدنا الاجتماعي وتحولنا لجماعات متصارعة في ما بيننا من أجل الحصول على مساعدة من هذه المؤسسة أو تلك، أو من أجل تعبئة غالون مياه من سيارات المياه، والتي تشهد مشاكل ومشاحنات بين الناس تصل لحد إطلاق النار بعضهم على بعضه.
الشعور العام السائد بين النازحين بأنهم تركوا عرايا أمام ثلاثية آلة القتل الإسرائيلية وجشع التجار ولصوص المساعدات وغياب العدالة في توزيع المساعدات أدى لتنامي الصراعات اليومية داخل مجتمع النازحين، ومع الوقت بدأ الصراع اليومي يفرز تحولات قيمية وانكشافات مجتمعية، جعلت من حياة النزوح ويوميات النازحين حلقة متواصلة ومستمرة من البؤس والضعف والشقاء واللوم، كما شكلت أو ساهمت على الأقل في سيادة السلبية من قبل النازحين وفشلهم في مواجهة حالات الاستغلال المستمرة والمتواصلة من قبل التجار لاحتياجاتهم الأساسية والتي ترتفع أسعارها فجأة ودون سابق إنذار.
الصراع الحقيقي الذي يتعرض له النازحون لا يقتصر على كيفية الخروج من هذه المقتلة بسلام، بقدر ما يجب أن تكون تلك السلامة مرتبطة بالضمير والواجب والأخلاق والقيم الجمعية للمجتمع الفلسطيني، كون تلك المسألة هي التحدي الأساسي أمام المجتمع الفلسطيني في غزة لإعادة ترميم ما دمرته الحرب، وإعادة بناء أنساقه الاجتماعية وفق معايير إنسانية وضوابط اجتماعية تساهم في حماية المجتمع من الانزلاق في المحاولات الإسرائيلية لتفكيك بنى المجتمع لتسهيل طرده واقتلاعه.
أسئلة كثيرة تحاصرني في ليل النزوح الطويل حول مستقبل الأطفال في ضوء حالة التفكك المجتمعي التي يفرضها واقع النزوح، وتنامي معدلات العنف المجتمعي، ووقف العملية التعليمية، وتدهور المنظومة القيمية والأخلاقية، أتساءل عن شكل المجتمع بعد الحرب، وما هو السبيل لمعالجة تلك التشوهات البنيوية التي باتت تعصف به وبعلاقاته وأنساقه الاجتماعية.
يومياتي كنازح مثل كل الناس حولي تذهب إلى الصراع اليومي المفروض علي لتوفير الغذاء والماء لأطفالي، ولكنها لا تقف عند هذه النقطة لأنني أرفض أن أتحول لساق وحطاب، وأحاول باستمرار الهرب إلى التفكير في الأسئلة الكبرى لمرحلة ما بعد الحرب، ومصير مجتمعنا الفلسطيني الغزي في ضوء محاولات التفكيك، لذلك ألجأ للكتابة الدائمة لتوثيق ما يحدث معي يوميا، وهي دعوتي منذ البداية لكل الأصدقاء لكي لا نتحول إلى هنود حمر يكتب عنا، فنحن يجب ألا نكتفي يأن نكون الرواية، بل يجب أن نكون أيضاً الرواة، ولنعيد معا سرد الرواية الفلسطينية بعيداً عن التشوهات التي يحاول الاحتلال فرضها على الوعي الفلسطيني.