غزّة.. ومضات في عتمة عامّة

21 سبتمبر 2024
أطفال غزّيون في خيمة تحوّلت إلى مدرسة، خانيونس، 19 أيلول/ سبتمبر 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **أمجاد غزّة وتحديات الحفاظ على شرف الكلمة:** غزّة تمثل الشمعة الوحيدة في ظلام الاحتلال، وتفرض تحديًا في الحفاظ على شرف الكلمة والتعبير عن الحق والعدالة.

- **تأثير المقاومة الفلسطينية على الأجيال العربية:** جيل من المثقفين في الوطن العربي تأثر بمقاومة الشعب الفلسطيني وأدب المقاومة، ويعبرون عن حق الحياة والسلام لأهل فلسطين.

- **الصمت المريع وأزمة الضمير:** الإبادة في غزّة كشفت وحشية المحتل، لكن بعض المثقفين العرب يعانون من صمت مريع وأزمة ضمير، مما يثير تساؤلات حول دورهم ومسؤوليتهم.

فيما غزّة اليوم الشمعة الوحيدة وكلُّ ما حولها ظلام، أتساءل: هل تركَت لنا أمجاد غزّة المجبولة من لحمٍ ودمٍ وأشلاءِ أطفالٍ أمام الاحتلال الوحشي والجُبن البشري العامّ مهمّةً أقلّ تحدّياً من الحفاظ على شرف الكلمة؟

كانت ثلّةٌ واسعة كثيفة من جيلي بالمملكة العربية السعودية وبالخليج العربي وبالوطن العربي، إن لم يكن الجيل كلّه، قد تفتّحت حواسُها الوجدانية الأُولى مطلع الصبا على مقاومة الشعب الفلسطيني، وعلى أدب المقاومة وشعرها الوهّاج، كما كانت قد فتّحت عيونها منذ الطفولة على كِتاب فلسطين ممهوراً بدم النكبة والنكسة، وممزوجاً بجرح الكرامة والعدل الذي يوغره الاحتلال الصهيوني لتلك الأرض برمزها الجغرافي والتاريخي والحضاري، فكانت تلك الثلّة ممّن أصبحوا مثقّفين وعلماء وأدباء لا تطيق إلّا أن تجهر برأيها وتكتب بحبر الدمع وببريق الأمل عن حقّ الحياة لأهل فلسطين، وعن مطلب السلام المنشود لإقامة وطنٍ آمن يتّسع لكلّ الطيف الثقافي والديني والعرقي والاجتماعي، على أُسسٍ من العدل والمساواة والتعايش السلمي.

ما أبعد الليلة عن البارحة! فبينما وضعَت الإبادة الجماعية لسكّان غزّة وقصْف أطفالها ومدنيّيها قصفاً ماحقاً حدّاً لجهل العالم بوحشية المحتلّ وعدالة القضية الفلسطينية، فخرجت من المجتمع العالمي والغربي شعوبٌ ونُخبٌ ثقافية وأكاديمية وأقلام حرّة على صمت وتواطؤ سياسيّيه تجاه هذا المحو الجماعي الجارف على مدار الساعة لعام كامل، وقامت عبر مختلف وسائل الاتصال وعلى الأرض بالتعبير عن رفضها لجريمة الإبادة مع المطالبة بوقفٍ فوري لجهنّم الإبادة على أرض غزّة، بدا الأمرُ وكأنّه أصاب الكثير منّا بصدمةٍ من الصمت المريع الموجع والمُخجل معاً، خاصّةً حين يكون الحجر من عمق الجغرافية العربية في يد احتلال استيطاني عسكري مُدمّر، ويكون الدم من رؤوس مسالمة عزلاء، أطفالاً ومدنيّين، رجالاً ونساء.

يكون مقتلُنا جميعاً لو تركنا أزمة الضمير تستبدّ بنا

أين ذهب جيل ديار العُرْب أوطاني؛ مثقّفين شرفاء وحمَلة أقلام نزيهة؟ وأين ذهبت الأجيال التي تربّت على كتاباتهم وما تلاها من أجيال؟ وإن كنتُ في سؤالي لا أرمي ببلاد العُرْب أوطاني تلك الطروحات الأيديولوجية البائدة التي لم يُعوَّل عليها ماضياً ليُعوَّل عليها الآن، بل أقصدها برمزيتها الشعرية في مشترك اللغة والثقافة والوجدان، وبرمزيتها العمرانية في تاريخ العمران البشري العربي على هذه الأرض. وعلى هذه الأرض بالتعبير الدرويشي ما يستحقّ الحياة وما يستحقّ التساؤل.

فهل الانفضاض.. الانسحاب.. التحاشي، أو لنقُل البرود إذا لم نقل البلادة، في التعامل مع أحداث غزّة اليومية الساخنة فوق كلّ طيوف الأشعة وفوق استعار الجحيم من الغيلة ومن التجريف ومن الهدم ومن الإذلال ومن التجويع ومن القتل المتعمَّد للحوامل والأمّهات والأطفال والأسَر والمخيّمات بكاملها... هو نوعٌ من الهزيمة الذاتية التي يعانيها بعض المثقّفين إزاء وحشية الاحتلال، فلا يملكون مواجهتها إلّا بذلك النوع من السكوت الكسير والتواري خلف اهتمامات أُخرى حفاظاً على ماء وجهٍ يغيض؟

هل الانفضاض أو التشاغل والصمت البائس عن لوعة ما يرتكبه عدوّ الطفولة على أرض غزّة هو نوعٌ من "يأس المثقّفين" السياسي والثقافي معاً في القدرة على التأثير في ما يحدث، ولو بإضاءة كلمة في حقول الظلام والحريق؟

هل - لا سمح الله - يعاني المثقّف في مواقع من الوطن العربي من أزمة ضمير؟ فلا يكون أمر الصمت عن فداحة الإبادة الجماعية المستدامة على أرض غزّة المتفشّي على مواقع التواصل الاجتماعي التي ينشط عليها المثقّفون مجرّد احتباسٍ للكلمات في منتصف الحنجرة من هول المصاب، ولا تعبيراً عن الحياء من موتنا إزاء دبيب الحياة في شهداء غزّة وأشلاء أطفالها، بل احتضاراً حقيقياً للضمير؟ وهنا - لا سمح الله - يكون مقتلُنا جميعاً لو تركنا أزمة الضمير تستبدّ بنا من دون أن ننتبه لمتلازماتها من فقدان الحسّ بالفادحة وفقدان الحياء أمام النفس وأمام الملأ.

لا ينبغي لنا، وليس خياراً إنسانياً ولا خياراً نبيلاً، أن نتحاشى أو نعتاد أو نرشو الضمير بشؤوننا اليومية الصغيرة عن التصفية العرقية والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني بحقّ غزّة يومياً.

آه كم يستبدّ بي البكاء كلما طلبتُ منال الكتابة الشافية البعيد، ولكنّي أستحي من عيون أمّهات غزّة المشغولات عن مشاعر ما يُسمّى حزناً أو بكاءً بالبحث عن مكان، أطفالُهن بين الأشلاء بيدٍ وعن خبز الطحين أو الحجارة والأمل باليد الأُخرى.

وإذن، فلا عذر لنا أن نحرث الأرض ونعُدّ النجوم بحثاً عن كلمة شريفة تليق بشرف غزّة الرفيع.


* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون