لم تكن "رجال في الشمس"، التي صدرت عام 1963، مجرّد عمل روائي أوّل لصاحبها غسّان كنفاني، بل مثّلت رؤية فكرية سياسية جذرية لتيار برز بعد النكبة، وعبّر عن انتماء إلى جميع حركات التحرّر الوطني في العالم ضدّ هيمنة الغرب، ورفض وصاية الأنظمة العربية على فلسطين التي تحميها طبقة عاملة مشتبكة مع قضايا مجتمعه.
أكثر من طبعة صدرت لتلك الرواية التي لا تزال شخصياتها ومقولتها الأساسية راسخة في أذهان الملايين، عن ثلاثة أشخاص ماتوا اختناقاً في الخزّان لأنهم لم يجرؤوا أن يقرعوا جدرانه؛ أن يقولوا لا في وجه الموت والظلم، وأبو الخيزران المهرِّب الذي أرسل الثلاثة إلى الموت من أجل المال، ولا يزال يرسلهم إلى اليوم.
كما صدرت طبعات عدّة لنصوصه المنشورة منها وغير المنشورة، آخرها عن "دار العائدون للنشر والتوزيع" في عمّان، حيث أطُلقت حديثاً "الأعمال الروائيّة الكاملة" للكاتب الشهيد غسّان كنفاني (1936 - 1972)، بتقديم الباحث محمد نعيم فرحات.
يضمّ الكتاب روايات الراحل المكتملة، وهي على الترتيب: "رجال في الشّمس"، و"أم سعد"، و"ما تبقّى لكم"، و"عائد إلى حيفا"، و"الشيء الآخر"، وكذلك رواياته غير المكتملة، وهي "العاشق"، و"الأعمى والأطرش"، و"برقوق نيسان".
في ثوريته، ابتعد كنفاني عن الشعارات الرومانسية التي علت في مرحلته، وذهب إلى تفكيك الواقع بمآزقه، سواء تلك المتّصلة بهجرة العمّال الفلسطينيين إلى بلدان الخليج، أو الهوية بأسئلتها الحرجة، أو نقده لازدواجية النخبة المثقفة، وكذلك للثورة التي آمن أنها تقود إلى التغيير ببعديه الاجتماعي والسياسي، وأن التحرر الوطني لا ينفصل عن الأخلاق التي لا تتغيّر معاييرها في الاتحياز إلى قيم الحرية والعدالة في أيّ زمان وأي مكان.
نشر صاحب "أدب المقاومة في فلسطين المحتلّة 1948 - 1966" روايتيه "رجال في الشمس"، و"ما تبقّى لكم"، في العام نفسه، وتتحدث الأخيرة عن عائلة فلسطينية هُجّرت قسراً إلى غزّة على يد العصابات الصهيونية، حيث تشتّت أفرادها في خياراتهم ومصائرهم، في امتزاج بين المشكلات الشخصية والهموم المجتمعية والسياسية.
أمّا روايتا "أم سعد" و"عائد إلى حيفا"، فأصدرهما كنفاني بعد ستّ سنوات من إصدار أول روايتين له، ونالتا اهتماماً نقدياً وانتشاراً جماهيرياً كبيرين. وخلال هذه الفترة سيكتب رواية "العاشق" (1966)، لكنه لن يكملها، وينشر "الشيء الآخر: من قتل ليلى الحايك؟" سنة 1966 أيضاً، في تسع حلقات في "مجلّة الحوادث" البيروتية، حيث تعرّضت لانتقادات واسعة بسبب اختلافها عن مجمل أعماله القصصية والروائية السابقة، نظراً لأجوائها البوليسية وغوصها في تحليل العلاقات الاجتماعية وإشكاليات الحياة المُعاصرة بعيداً عن الصراع مع العدوّ.
في الأعمال الروائية الكاملة الصادرة عن "العائدون"، روايتا "الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان" غير المكتملتين، والتي لم يتحدّد حتى اليوم تاريخ كتابتهما، إلى جانب "العاشق" المؤرّخة بعنوان نهائي، ولا تتوفر أسباب قاطعة حول سبب عدم اكتمالها، حيث أشار البعض إلى رؤيتها النقدية الحادة في تناول المجتمع الفلسطيني وثقافته، أو أنها تتضمّن تساؤلات لم تكن في صدارة أولوياته بعد عام 1967 بحكم طبيعة تلك المرحلة، لكن الحقيقة الماثلة أن غسّان تمكّن من تقديم طروحات جريئة ومتقدّمة ومتماسكة في رواياته التي كانت جزءاً من مشروع فكري وسياسي أعمق، وإن كان صعباً إدراك مقاربته الشاملة لثماني روايات، مكتملة وغير مكتملة، كُتبت خلال تسع سنوات، كان يكتب خلالها أيضاً المسرح والقصة القصيرة، ويعمل في الصحاقة، ويقوم بمهام تنظيمية وسياسية.